أدوية بلا إنسانية: هل نترك الخوارزميات تتحكّم في علاجنا؟

10 سبتمبر 2024
+ الخط -

في عالمٍ تتقدّم فيه التكنولوجيا بخطى سريعة، أصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرّد وسيلة للتسلية أو تحسين الكفاءة، بل أداة محوريّة تتدخّل في جوانب الحياة الأكثر حساسيّة، بما في ذلك مجال الصحة. واحد من أكثر المجالات الطبيّة تعقيدًا، والذي يبدو أنّ الذكاء الاصطناعي يضع بصمته فيه، هو "الفارماكومتريكس".

قد يبدو المصطلح غريبًا على مسامعِ البعض، لكنّه يمثل الخطّ الفاصل بين دقّة العلم وبرودة الأرقام، وبين إنسانيّة الطب وجفاف الخوارزميات. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل نسمح للآلات بأن تتخذَ القرارات الطبيّة الأكثر حساسيّة نيابةً عنا؟

ما هو الفارماكومتريكس؟

لنبسّط المفهوم قليلًا، إنّ الفارماكومتريكس هو علم يُعنى بفهمِ العلاقة بين جرعةِ الدواء واستجابة الجسم، من خلال نماذج رياضيّة مُعقدة. والهدف من هذا العلم هو تحسين كفاءة الأدويّة وضمان تلاؤمها مع المرضى بشكلٍ فردي، أي توجيه الجرعة الأمثل لكلِّ شخصٍ بناءً على حالته الصحيّة. في هذا السياق، الذكاء الاصطناعي يلعبُ دورًا جوهريًا، حيث يُستخدم لتحليل بيانات هائلة ومعقّدة؛ بدءًا من التركيب الجيني للمريض، وحتى تاريخه الطبّي وتفاعلاته مع أدويةٍ أخرى.

ولكن مع كلّ هذه الفوائد، يظهر سؤال يتجاوز العلم: هل يمكن للخوارزميات أن تحلّ محلّ الأطباء؟ وهل تفهم تلك الآلات ما يعنيه الألم أو الأمل؟

عندما تصبح القرارات الطبيّة مجرّد أرقام

الذكاء الاصطناعي قادر على تحليلِ كميّات ضخمة من البيانات بلمح البصر. يمكنه أن يقترح جرعات مثاليّة بناءً على ملايين البيانات التي لا يمكن لأيّ طبيب معالجتها يدويًا. هذه التكنولوجيا تعدنا بعلاجاتٍ أكثر دقة، وأخطاء أقل، وعالم طبي مثالي. ولكن، هل هذه الدقة الحسابيّة كافية؟

الطب ليس مجرّد قرارات قائمة على أرقام، بل هو تفاعل بين الطبيب والمريض، بين الإنسان وآلامه وآماله. الخوارزمية قد تحسب أنّ دواءً معيّنًا هو الأمثل، لكن هل تستطيع أن تدرك أنّ هذا المريض، بالذات، يخاف آثارًا جانبية معيّنة؟ أو أنّ تجربته السابقة مع العلاج تركت في نفسه ندوبًا نفسيّة تحتاج إلى تفهّم؟

الطب ليس مجرّد قرارات قائمة على أرقام، بل هو تفاعل بين الطبيب والمريض، بين الإنسان وآلامه وآماله

عندما يُصبح العلاج مسألة حسابيّة بحتة، نخاطر بفقدان اللمسة الإنسانية التي تجعل الطب فنًا بقدر ما هو علم. الطبيب يرى ما لا تراه الآلة؛ يستمع لما بين الكلمات، ويشعر بما يعجز عن التعبير عنه المريض. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تجعل كلّ حالةٍ فريدة، وهي ما قد يغفل عنه الذكاء الاصطناعي مهما بلغ من دقة.

الذكاء الاصطناعي: أداة مساعدة أم سيد على القرارات؟

التحدّي الحقيقي الذي نواجهه اليوم ليس في قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم توصياتٍ طبيّةٍ دقيقة، بل في الدور الذي سيُمنح له. هل سيبقى الذكاء الاصطناعي أداةً تُساعد الطبيب على اتخاذ القرار الأمثل؟ أم أنّه سيتحوّل إلى الحاكم الذي يتخذ القرار النهائي؟

الخطر هنا يكمن في الاعتماد الكلّي على الخوارزميات بدون تدخل إنساني. الذكاء الاصطناعي يتخذ قراراته بناءً على البيانات المُتاحة، لكن ماذا لو كانت تلك البيانات ناقصة أو منحازة؟ الخوارزميّة قد تُخطئ، وقد تكون النتائج مدمّرة، إذا لم يكن هناك إشراف بشري.

على سبيل المثال، يمكن لخوارزمية أن تقترح علاجًا معيّنًا بناءً على بياناتٍ إحصائيّة، ولكن ماذا لو كانت تلك البيانات تعتمد على عيّنات غير شاملة، أو لا تأخذ بعين الاعتبار الفروق الثقافيّة أو الاجتماعيّة؟ من يتحمّل المسؤوليّة عند حدوث خطأ؟ هل نلوم الخوارزمية أم من وضعها في هذا الموقف؟

نحو شراكة بين الإنسان والآلة

ربّما يكون الحل في إيجاد توازن ذكي بين الإنسان والآلة. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون شريكًا قويًا للطبيب، يُعزّز من دقته ويُساعده على تحليل البيانات التي قد تفوته. لكن في النهاية، يجب أن يكون القرار النهائي بيد الطبيب البشري، الذي يستطيع أن يرى الصورة الكاملة ويتعامل مع المريض كإنسانٍ وليس كمعادلة.

عندما يُصبح العلاج مسألة حسابية بحتة، نخاطر بفقدان اللمسة الإنسانية التي تجعل الطب فنًا بقدر ما هو علم

الطبيب يمكنه استخدام توصيات الذكاء الاصطناعي كأداة، ولكن يجب أن يكون هو من يُقرّر ما إذا كانت هذه التوصيات مناسبة لحالة المريض الفرديّة. في هذا السياق، الذكاء الاصطناعي لن يحلّ محلّ الإنسان، بل سيُعزّز من دوره ويُساعده على تقديم رعايةٍ صحيّةٍ أفضل.

هل نُسلّم حياتنا للخوارزميات؟

الذكاء الاصطناعي يحمل بين طياته وعودًا كبيرة لمستقبل الطب، ولكنه يحمل في الوقت ذاته تحدّيات أخلاقية يجب علينا مواجهتها بوعي. السؤال ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيؤثّر على الطب، بل كيف نستخدم هذه الأداة بطريقة تضمن أن تبقى القرارات الطبيّة إنسانيّة.

علينا أن نتذكر دائمًا أنّ الطبّ، رغم كلّ تطوّراته التكنولوجية، هو علمٌ يعتمد على فهم الإنسان بكلِّ تعقيداته. قد تُساعدنا الخوارزميّات في تقديم رعايةٍ أفضل، لكن لا يمكن لها أن تحلّ محلّ الحكمة التي تأتي من تجربةِ الطبيب ومعرفته العميقة بالمرضى كبشر يحملون قصصًا وآمالًا، لا مجرّد أرقام وبيانات.

في النهاية، يجب أن يكون الإنسان هو الذي يقود هذا التغيير، وليس الآلة، لأنّ الأدوية قد تكون بلا إنسانيّة، لكن الطب يجب أن يبقى دائمًا إنسانيًا.

باحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي في لندن
علي عيسى
مهندس إلكترونيات فلسطيني وباحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي وتطوير الأدوية، مقيم في لندن.