أحلام موسى المجهضة
سليمان موسى باكثير
الميت مجهول بالنسبة له، لكن الجنازة مهيبة. المقابر على أحد جانبي الطريق، أعداد غفيرة تشيّع الفقيد وتغلق الطريق جيئة وذهاباً. السيارات القليلة استكانت وهالها الموت وقدسيته الضاربة في عمق الأزل، فوقفت موقف الحداد. الوقت يقترب من منتصف الليل في إحدى ليالي الشتاء، ما يضفي مزيداً من الاستثنائية والوجاهة للميت، أو على أقل تقدير سيناريو الوفاة. فهل كان الميت اعتبارياً أم يمت بصلةٍ ما لشخصية اعتبارية؟
إذن، وإن لم تكن تراه كثيراً، فهذا لا ينفي أنه ملء السمع والبصر، واسمه تلوكه الأفواه في الأمور التافهة قبل العظيمة، أم أنه خدوم يقضي حوائج الناس، فيتمتع بحبّ كبير في قلوبهم، أم ينتمي لعائلة كبيرة العدد، حيث لا ضابط ولا رابط لهم في التناسل: "الراجل منهم يقول لمراته صباح الخير.. تحمل على طول".
ارتسمت على وجه موسى ابتسامة قاحلة جرداء، لا علاقة لها بالموقف الجنائزي الراهن في حدّ ذاته. ومرّة أخرى، عاد يغوص في الموت وماهية الميت، والأعداد الغفيرة المتراصة على الطريق والمتحلقة حول المقابر، وحول النعش، وكأنها ذباب أزرق تكاثر على جيفة وتحلّق حولها. أيكون في سنّ الشباب، وقد باغته الموت على غفلة؟ أو قرّر أن يبادر هو ما دامت المبادرة قد غابت في سبيل الحياة، فلتحفر مجراها في طريق الموت؟
رأس موسى مؤخراً لا تستقيم له فكرة، فكلّ ما يدور في عقله أشباه أفكار أو أشباح... لا فرق. أيكون عقله مصاباً ببؤر سوداء، داكنة، ينقطع التسلسل الطبيعي للفكرة عبرها، أم كسته ثقوب جهنمية تبتلع في فوهتها كلّ فكرة ترنو منها، هل الموضوع له علاقة بأزمة منتصف العمر؟ هو بالكاد أكمل عقده الثالث... هل يعاني أزمة وجودية؟ وهل تلك الأزمة أثرت حقاً على خياله، فصار يرى الموت أينما حلّ، وأينما ارتحل، وأينما ولّى وجهه؟ أو كما يقول هو: "في زماننا الكائن بين جنباتنا، مبخوتون هؤلاء الذين لا يستغرق موتهم رصاصة تستقر في سويداء القلب أو تخترق حشايا المخ، رصاصة رحمة هي وقُبلة حياة، ألمها لن يتجاوز شكة إبرة في الطي...".
مرّت الأيام كعادتها، خاضعة فقط لنواميسها، غير مكترثة بمن يسقط وينزوي، ومن يصعد ويلمع، بمن يموت ومن يولد
تخرّج موسى من كلية التجارة قسم محاسبة، وكان تقريباً الوحيد ممن التحق بكلية التجارة من بين أقرانه الذين زاملوه في المرحلة الثانوية، رغم حلمه بأن يصبح مهندساً. ولم يكن طموحه مجرّد أحلام يقظة أو أضغاث أحلام، بل كان يتمتع بعقلية رياضية، تحفزك وتحمّسك لأن تنعته بالعبقري في الرياضيات.
بادئ ذي بدء، قاسى موسى خيبة مريرة لهذا التهالك الفج غير المتوقع لحلمه، ولأنّ الحياة، حتماً، ستستمر، كان عليه أن يتعافى من يأسه وخيبة أمله، ولعل ما ربط على قلبه ونفخ في جسارته المتهاوية، هو الثبات العجيب لوالده، والهدوء غير الطبيعي الذي كلّل ملامحه، هو مدرس التاريخ الذي لم يكن مطمعه في ولده أقل من مطامع أعتى الغزاة والفاتحين. ولما رأى تهالك جيشه، قرّر أن يتحايل على الوضع المأزوم ونفسية جنده المهزومة، فسعى جاهداً لأن يبثّ في موسى روحاً جديدة: "ولا يهمك يا موسى، انت عملت اللي عليك والخيرة فيما اختاره الله، فقد عهدتك مثابراً مجتهداً، فلا تخيّب فيك رجائي فتحيد عن الدرب وتصير لقمة سائغة تبتلعك أولى تجارب الحياة بسهولة ويسر، لازم تكمل يا ولدي كعادتك، جايز تطلع من الأوائل وتتعيّن في كليتك أو حتى تشتغل محاسب في بنك، وبعدين انت ولعك كله بالرياضيات والتعامل مع الأرقام، ما رحتش بعيد يعني".
بعد حديثه الأخير مع والده، قرّر أن يواري كسرة نفسه ويتدارك هزيمته، فطوى صفحتها وركز على المستقبل من خلال كلام المعلم والتاريخ والقدوة وقبس النور الذي يهتدي به دوماً. انطلق في الحياة بجدها وهزلها، ساير ركابها غير مهتم بحلمه الموؤود في لاوعيه، فقد تبنى آخر، أو بالأحرى وجد في كلام أبيه بعض العزاء.
مرّت الأيام كعادتها، خاضعة فقط لنواميسها، غير مكترثة بمن يسقط وينزوي، ومن يصعد ويلمع، بمن يموت ومن يولد، لم نعهدها تمتعض وتتشنج في سيرورتها أو صيرورتها، أو تتشح حزناً وكآبة لأن فلاناً قد أُقصي وهُمش ومن ثم هشّم، لم تبك نبياً ولا ولياً ولا عبقرياً... فما بالك بالبسطاء الدهماء؟
موسى يتقلب بين أكفها العازفة أناملها على كافة الأوتار، وبما يحلو لها من ألحان، يترنم مع اللحن الذي يستهويه، ويتجاسر على اللحن المؤلم المفطر للقلب، وما يستعصي يتحمّله، يتخطاه، ولا يقف عنده، حتى استقر به المقام عند الألحان الشعبية البكائية... وللحكاية ضفائر أخرى.