أبحث عن عمل... لكنني لاجئ!
خلال سنواتٍ من أعمال إدارية كنتُ فيها قابلتُ للتوظيف مرات، وكذلك قُوبلت في أعمالٍ تقدّمت إليها؛ منها في جامعات رسمية، ومنها في مؤسسات وهيئات مدنية، ولولا العُجب لَذكرت أنني لم أُرفض في مقابلة إلا مرةً لجهلي اللغةَ التركيةَ؛ مع أن ذاك العملَ الذي قُوبلت فيه كان لتدريس العربية للناطقين بغيرها!
ولعلّ لباقة المسؤولين الأتراك في المقابلة آنذاك وإعجابهم بالأداء – خلا عدم معرفتي التركية – لم يترك في نفسي أثراً للرفض، وواسيتُ نفسي بها عن السفر الطويل إلى تلك الجامعة والتكاليف حينها.
والذي أعاد إليّ ذكرى ذلك مقابلة طريفة من جديد في طريق البحث عن عمل؛ إذ جاءتني أسئلة لم يخطر ببالي يوماً أن أُرمى بها، فكان سؤالٌ عن موسيقيّ عراقيّ، وسؤالٌ عن لاعب كرة، وآخر عن دوري أبطال أوروبا، مع أسئلة متفرقة في السياسة والجغرافية؛ مع أن العمل المطلوب تدقيق لغوي!
وحيث إنَّ الحياة مدرسة، ولا يُشترط للمجتهد في مادة أن يكمل فيتفوق في سائر المواد، وإنَّ على الطالب فيها جمعَ الدروس حتى لا ينهض له فوق رأسه شيء فيقع في الحفرة ذاتها أكثر من مرة؛ اعترفت أمام نفسي بجملة أخطاء وأنا على طريق البحث عن عمل.
ولعل أكبر تلك الأخطاء هو الاستناد إلى ركام من الشهادات يطوّل المرء بها سيرته الذاتية، ولو أنه نثرها لَملأ بها أكثر الجدار في بيته؛ فالشهادات العلمية وحدَها لا تنفع لتأمين وظيفة في "زمن الطوارئ"، وهذا ما يلزم السوريين خاصة استحضاره؛ فالانتكاسة لبعض الخرّيجين تأتي ابتداءً من الجهل بالظروف التي يسعى فيها للعمل، وبالجهات التي يطلب العمل عندها، إلا إذا كان يصدّق أنه بحمله هويةً أخرى وجوازاً آخر تُفتح له أبواب الأعمال، أو ينمحي من جبينه ختم "لاجئ" أو "أجنبي"، وفي الحالتَين تتأكد لدى أصحاب العمل سكّين "الحاجة" على رقبة طالب العمل. لا يعني هذا على أيّ وجه تسخيف الشهادات عند طلب العمل؛ لكنّ المراد أنها لا تزيد عن كونها أوراقاً تحقق الشرط الأول للقَبول، ليس أكثر.
وبعد المقابلة التي رُفضت فيها لجهلي اللغةَ التركية تذكرت طلاباً كثيرين كانوا يتأخرون في الدراسات العليا في تخصص اللغة العربية خاصة بسبب امتحان اللغة الأجنبية؛ فهذه مسألة وافقناها أو خالفناها مما عمّت به البلوى في البلدان، ولا يمكن الهروب منها بشهادات أكثر ولا بتميّز في الأداء في بعض المواضع؛ والحديث هنا في الأصل دون وصفات "الشفاعات والواسطات" السحرية طبعاً. فهذا استثناء آخر يلزم التنبّه إليه؛ إذ أدركت أن بعض الأدوات الاستثنائية تغدو أصولاً أحياناً، لاسيما وأنت خارج أرضك وبين غير أهلك، فلا تفترض عند طلب العمل الأصول التي تعرفها، بل اعرف جيداً أصول مَن تدخل عليهم؛ فهو يقابلك ليأخذ مَن يوافق أصوله وأهواءه، والأصول والأدوات الاستثنائية كما يضعها صاحب العمل لا كما يتخيّلها طالبه؛ فشهادة الدكتوراه لن تنفع في تغطية الضعف في المهارات الحاسوبية إن كانت شرطاً في العمل، ولا شهادات دورات سوق "التنمية البشرية" تُسمن وتُغني إن كان العمل يشترط خبرةً ميدانيةً مباشرةً، كما لم تشفع شهادات كثيرة في العربية والخبرة في تدريسها والبحث العلمي في تجاوز حاجز لغة أجهلها؛ وإن كانت وفق الأصول الغالبة دولياً لا تُطلب في تدريس لغة للناطقين بغيرها، بل تشترط جامعات أخرى عدم إتقانها ليكون تدريس اللغة أفضل.
وأمّا اللباقة مع الرفض فهذه قصة طريفة؛ فكثيراً ما ينخدع بها طلّاب الوظائف والمعاملات، وقد يبني الواحد قصوراً من وهمٍ لابتسامةِ عضوٍ في اللجنة يحرّك بها عضلات وجهه رياضةً وعادةً عن غير قصد، فهي جزء من حكاية "تمت العملية بنجاح؛ إلا أنّ الرجل مات!" تُختم مع ابتسامة بالمراوغة المعهودة: "رقمك عندنا؛ وسنُعيد الاتصال بك". فلا يصرف بصرَك في الوظيفة شيءٌ عن الدقة في الإجابة وإصابة الهدف؛ فإن انحرفتَ انحرفَ عنك العمل!!
ومع المقابلة الأخيرة والأسئلة في الموسيقا والرياضة والسياسة والجغرافية أدركت أن المطلوب لذاك العمل ليس متخصصاً في العربية وحدها، ولعل أقرب الأوصاف للدقة أنهم يطلبون "مثقفاً" لا "متعلماً"، وكذلك الأمر أعجبَني أم ساءَني! فلا يمكن تصديق المعلَن عنه في شروط العمل من إتقان التخصص المطلوب؛ فالحال أن أكثر الأعمال ينطبق عليها ما يأتي في خاتمة بعض المهام الوظيفية من عبارة: "وتنفيذ كل ما يُطلب منه من مهام في إطار العمل"! فلا بد لطالب العمل من إدراك ذلك، وإدراكُه هذا يقتضي تنويع الأدوات التي تحقق ذلك؛ فالعمل في التدقيق اللغوي ضمن مؤسسة صحافية لا تكفي فيه شهادةٌ بالعربية ولا تدريسُها والبحثُ فيها ولا العملُ في التدقيق لدى مؤسسات العناية بالتراث وتحقيقه، ولعل لهذا وجه حقّ؛ فالعمل في تحقيق التراث وتدقيقه لا يكفي فيه معرفة النحو والصرف والإملاء، وكذلك التدقيق في الصحافة لابد له مع معرفة العربية وأدواتها أن يجمع ثقافة صحافية، وإنْ بالحدود الدنيا.
هذا يتوافق مع الفضاء المفتوح والعالم في نمط القرية الصغيرة كما نعيشه اليوم، ومَن أراد العيش فيه فيكون بعقليته لا بعقلية زمن سابق؛ وإلا قضَى عُمره يبحث في منصات الوظائف ويعدّل في سيرته الذاتية ويرسلها في الآفاق
وفي وظيفةٍ تقدّم إليها أكاديميّ مشهور برتبة أستاذ "بروفيسور" اعتذرتْ منه الجامعة بعد أن كانت قد ساقت إليه مدائح تترى بسبب منشورات "غير مناسبة" على صفحته في "فيسبوك"! وما ذاك لخلل في الآداب؛ بل في إخلاصه لقضية فلسطين والأقصى، فما عاد يعرف كيف يمسك قلمه ويكتم إيمانه. فإن قصدتَ عملاً تعرف فيه التدقيق في النيّات والخلفيّات فاحذرْ؛ فإمَّا أن تقول اسمك الكامل ابتداءً فتُعرف به، ويحترمنك وإن رفضوك؛ ولا يعني هذا المناطحة ومعارك كحروب "دون كيشوت". وإمَّا أن تبقى تتلوّن باقي عمرك، وتنادي لكل مَن يتزوج أمّك بعمّك؛ مع أن بعض الصبغات لا تزول بحلقِ لحيةٍ ولا بمنشورٍ موسيقيٍّ وتغييرِ "بروفايل"، ولا حتى بمصافحة السيدات يا سيدي!
فالتجربة في البحث عن العمل على امتداد مساحة جغرافية كبيرة علّمتني أن القوة الحقيقية هي للمهارات والأدوات والثقافة، أكثر مما هي للتعليم والشهادات والدورات التدريبية من "دكاكين التنمية البشرية"، وليس هذا أمراً خاصاً بالتخصصات الإنسانية وحدها؛ فالواضح أنه لا يُقبل من مهندس الانغلاق داخل حدود تخصصه الهندسي الضيق، دون امتداد ظلال له في باقي التخصصات الهندسية والعلمية من جهة، مع معارف إنسانية ثقافية من جهة أخرى. وهذا يتوافق مع الفضاء المفتوح والعالم في نمط القرية الصغيرة كما نعيشه اليوم، ومَن أراد العيش فيه يكن بعقليته لا بعقلية زمن سابق؛ وإلا قضَى عُمره يبحث في منصات الوظائف ويعدّل في سيرته الذاتية ويرسلها في الآفاق.
وإن كان هذا الكلام عن أهمية الثقافة بمعناها الأوسع مع التخصص التعليمي عاماً بأهميته في الناس فهو في اللاجئين والمهجَّرين أكثر أهميةً وإلحاحاً؛ فالمناعة التي تكون للمرء في وطنه من الاستغناء عن العمل إن توفر أهل يتكئ عليهم أو ميراث، ومن فرض الذات بالشهادات في ميدان التخصص، ومن ضيق البلد فيدفع عثرة تقف في طريق عمله باتصال معرفة أو قريب وبهدية لضابط أو مسؤول فاسد، ومن الأهم في السقف الحقيقي الذي يجلس تحته مستوراً إذ هو سقف بيته ووطنه لا سقف مستعار؛ كل ذلك يفرض على مَن قُطعت ساقه إن شاء المشي أن يتخذ ساقاً أخرى أو عكاكيز يتكئ عليها.
فأول ذلك أن نكفّ عن تخديرنا أنفسَنا وبعضَنا بأوهام فرص الأحلام والأرباح الخيالية والانطلاق إلى القمر، والإنسانُ خلف جهازه اللوحي أو هاتفه؛ فلا وقوف ولا صمود لمن لا يتخذ هذه الأدوات ينهض عليها في تِيه اللجوء والتشرّد إذا أراد العمل؛ فالفرصُ تضيق وتندر على اللاجئين والمشرَّدين، ما يوجِب علينا امتلاك قوى ومهارات استثنائية نفرض بها أنفسنا أفراداً فاعلين مميزين، فمَن أراد العيش في الزمن الصعب الاستثنائي فلا بد أن يكون هو ذاته استثنائياً بمهاراته وقدراته كذلك.