العرب وملكة بريطانيا.. بين معسكرين
تابع أكثر من 4 مليارات شخص حول العالم جنازة ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، منهم 28 مليون بريطاني، وفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، شاهدوا جنازة الملكة على شاشاتها في منازلهم، ما يجعلها واحدة من أكثر الأحداث مشاهدة منذ سنوات.
الاهتمام الدولي بالحدث مفهوم، فالملكة الراحلة تُعَدّ من أقدم ملوك العالم وأطولهم مكوثاً على العرش، كذلك فإن مملكتها كانت يوماً إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، غير الطبيعي هو تحويل بعض نشطاء السوشيال ميديا الحدث إلى معارك طاحنة، بعضهم ذهب لاستجلاب براهين على أنها كانت رأس الماسونية، والبعض الآخر غرق في معارك الترحم عليها أو لعنها، وآخر بكى حتى ابتلت لحيته كأنها جدته لأبيه أو أمه، وفريق آخر يرى أن الديمقراطية زائفة في بريطانيا، وهو يعيش في بلدان لم تمرّ يوماً الديمقراطية من جانبها، وربما هو نفسه متورط في التبرير لحكام قتلة!
وفي تفسير وتشخيص المعسكرين، ثمة عربي يعيش في بريطانيا ويحمل جنسيتها ويتمتع بحقوقه كاملة فيها، فرّ هارباً من ضيم وظلم واستبداد حكامه، هذا لا يمكن محاكمة رأيه كالآخرين، ففي حالته هو بين متجاذبين، الشعور بالامتنان للأمان والعدالة التي منحته إنكلترا إياها، بمقابل ما عاناه من قسوة في بلاده على أيدي جلاديها، تعبيره عن الامتنان لبريطانيا لا يعني بطبيعة الحال قبوله بإرث استعماري بشع، استعبد شعوباً وأقام كيان احتلال عنصري لا مثيل له.
بالمقابل، ثمة عربي آخر محق في موقفه التاريخي من بريطانيا واستعمارها، كذلك فإنه ما زال يعاني الويلات في العالم العربي جراء دعم بريطانيا وأميركا والغرب عموماً لأنظمة استبدادية نصبتها إنكلترا في بلداننا قبل مغادرتها، وورثتها أميركا، وهذا محق في مشاعره كذلك، مضاف إليها ذلك الانحياز المتحرر من أي قيد في دعم ومساندة دولة الاحتلال الصهيوني، كل ذلك يجعل موقفه سالباً من بريطانيا وملكتها وكل ما يرتبط بإرثها.
ينبغي الفصل بين التجربة الديمقراطية الحديثة لبريطانيا وعموم الغرب، وبين ماضييه الاستعماري
لكن برأيي، وفي سياق محاولة بناء موقف متزن وواقعي من بريطانيا ومن ملكتها الراحلة، ينبغي الانتباه والتمييز بين إرث بريطانيا الاستعماري، وجرائمها، وعلى رأسها وعد بلفور وكيان الاحتلال، وبين ديمقراطيتها الحديثة، الأول مدان ولا يمكن التنازل عن حق الاعتذار عنه والمطالبة بتعويض ضحاياه، والثاني نموذج ينبغي دراسته وانتهاج آلياته.
بريطانيا المستعمرة ارتكبت جرائم إبادة، ومارست العبودية بأبشع صورها، وسرقت ونهبت بلداننا وبلداناً في أفريقيا وعبر العالم، لا يمكن أن تُمحى تلك الصورة من أذهاننا، وليس مطلوباً من الضحية أن يسامح الجلاد، ولا أن يبتكر له الأعذار، ولا أن يذوب في ثقافته وينبهر بها، فكل ذلك لا يستجلب الاحترام له، لكن ينبغي تعلم الدروس والعبر مع الإصرار على التمسك بالحقوق التاريخية.
ما أود أن أخلص إليه، أنه ينبغي الفصل بين التجربة الديمقراطية الحديثة لبريطانيا وعموم الغرب، وماضيه الاستعماري، فبناء الدول وتطور نظم الحكم، وكل تلك التجارب والخبرات الإنسانية هي ملك وإرث لجميع الشعوب، خاصة التي ما زالت تتلمس طريقها نحو الحرية نأخذ منه ما هو مفيد، ونبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون، فالموقف الأيديولوجي والوطني من جرائم بريطانيا وفرنسا وأميركا مسألة ثابتة، لا ينبغي فيها التسامح ولا النسيان، ولا بد من مواصلة مطالبة تلك الدول بالاعتذار عن وعد بلفور، وعن الاستعمار، وعن العبودية، وعن كل ما فعلوه في بلداننا، في ذات الوقت ينبغي قراءة تجارب تلك الدول وشعوبها، ونضالها الطويل في انتزاع حريتها، وإرساء نظم ديمقراطية تضمن انتقالاً سلساً للسلطة، وتمنع الحكام من البقاء في كراسيهم، دون رغبة شعوبهم.
ودّع البريطانيون ملكة مكثت على العرش 70 عاماً، بمراسيم وعادات معقدة ودقيقة في تشييعها، تحكي قصة 1000 عام من الملكية، انتقلت فيها من ملكية مطلقة، إلى ملكية رمزية، فيها الملك أو الملكة فوق السياسة، هم رمز للأمة ووحدتها، لكن الحكم لحكومة منتخبة من الشعب، مشهد يحكي قصة نهاية إمبراطورية حكمت العالم، وبقي منها اليوم فقط رموز وتقاليد وصولجان، لكنها نجحت في الفصل بين السلطات، وتكريس العدالة، وإرساء دستور غير مكتوب، لكن مطبق بأبهى صور، وأمتن المعايير. هذا ما ينبغي أن نركز عليه في العالم العربي، ونحاول الإفادة من تلك التجربة الديمقراطية، دون نسيان الإرث الاستعماري.