"متلازمة أبو مازن" (1 - 2)

29 سبتمبر 2022
+ الخط -

سأبدأ من حكاية فتاة جميلة وقعت في أشد فصول الضياع في حياتها إثر قلبها المثقل بجراح أنهكتها، ولم تكن تريد سوى يد تنتشلها من حزنها، وهكذا غدت تمضي حتى جاء من تشاطره ألمها، وهنا سأتوقف كي لا أطيل عليكم، لذلك سأنتقل للنهاية مباشرة دون تسلسل أو حبكة للقصة.

أخذ الشاب بيدها، وقال لها لا بد من أن ننعزل عن هذا العالم لساعات ونشكل عالماً خاصاً بنا في قوقعة لا تتسع سوى لي ولكِ، وأخذ يرسم لها كونا بزيف مشاعره، وفي تلك اللحظات تحرش بها، لكنها لم تمانع، بل زاد تعلقها به وباتت تغرق في حبه يوماً تلو الآخر حتى يوم اعتدى عليها بشكل فظ، بادئ الأمر مانعت، لكنها رضخت أمام حبه ولم تكتفِ بذلك، بل قبّلت يده عندما انتهى الأمر! ولم تع حتى اللحظة أن هذا اعتداء وليس حبا!

أعتقد سنجد مبررات في علم النفس لتلك الفتاة التي تُيمت بحب من اختار أن يكون عدواً لها حين استغلها دون أن تدري، وربما متلازمة استوكهولم ستسعفنا بتفسير تلك الحالة!

إذ إن استوكهولم تفسر نفسها إن عدنا سريعا إلى سبعينيات القرن الماضي حيث العاصمة السويدية، حين تعاطف رهائن مع مختطفيهم الذين احتجزوهم عندما سطوا على أحد البنوك المرموقة في البلاد، وأخذوهم رهائن ليخضعوا السلطات لتنفيذ مطالبهم، ورغم مكابدتهم شقاء الاحتجاز في غرفة يضيق بها حتى الهواء لنحو ستة أيام؛ إلا أنهم عشقوا من تسببوا لهم في هذا الألم وتمادوا في ذلك حين رفضوا الادعاء ضدهم أمام المحكمة، وذهبوا ليجمعوا لهم الأموال وهم يستمتعون في ترتيبها ورقة تلو الأخرى، الحالة تلك دفعت السلطات في البلاد إلى اللجوء لطبيب نفسي ليشرح لهم تلك الحالة حتى يخلصهم من ذهولهم أمام مشهد حب الضحية لمعذبها!

اعتقال لا يخدم سوى الاحتلال كما صرحت فصائل المقاومة في دفاعها عن مقاتل مقدام في صفوفها

ومنذ ذلك الوقت يتم استحضار متلازمة استوكهولم لتفسير أي حالة مشابهة، وإن اختلفت زمانياً ومكانياً، وفعلاً ينجح المحللون والكتاب بذلك إلا في حالات مستعصية كتلك التي حيرت علماء النفس والفلسفة والطب والعالم بأجمعه!

إذ إنها حالة يهيمن عليها حب توشح بالخيانة والعار، حيث ينتقل الأفراد الذين يعيشونها تاريخيا من ذل إلى ذل أشد، سحق ضمائرهم وأصالتهم وكرامتهم، تلك الحالة يا أعزائي كالطلاسم لا تفك رموزها وتتمثل بـ"السلطة الفلسطينية" التي يهيم بعض عناصرها بعشق عدوهم الأزلي!

وبما أن استوكهولم كانت نسبة إلى العاصمة السويدية، فدعونا نطلق على تلك المتلازمة اسم "سلطة أبو مازن" نسبة لكبير "المنبطحين"، ولا نعمم على جميع العناصر، نحن نتحدث عمن شربوا من كأس الذل ذاتها وغرقوا بحب عدوهم وهم على يقين بأنهم يمارسون أشد العلاقات انحلالاً وشذوذاً مع مغتصب عرضهم وأرضهم... حين تعتقل السلطة مطاردين مطلوبين للمحتل تارة، وحين تصفيهم تارة أخرى، وصدقاً لو اجتمعت كل متلازمات وأمراض الكون لن تكفينا حين نتحدث عن خياناتهم تجاه شعبهم وانبطاحهم أمام عدوهم الذين لم يتعاطفوا معه فحسب، بل شاركوه حتى جرائمه بحق شعبهم!

وآخر تلك الجرائم ارتكبت يوم 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، حين أصدرت النيابة العامة قرارا بتمديد اعتقال الصعب المصعب بتهمة "حيازة سلاح"، ذلك الذي كان يدافع به عن عرض البلاد، ليكملوا بذلك جريمة التاسع عشر من ذات الشهر، حين اعتقله عناصر أمن "اشتية" بعد أن نصبوا له كميناً ورفيقه البطل "عميد طبيلة"، لينقضوا عليهما بخبث وجبن كما القطة حين تنقض على فريستها، وأخذوا يظنون أنهم سينالون من المقاومين، ليأتي الرد سريعاً من جبال النار التي أشعلت نار الغضب والتمرد بوجه السلطة علها تستيقظ من متلازمة أبو مازن، وهنا خرج الناطق باسمها في تصريح، ويا ليته لم يصرح، إذ قال: "أحث الفلسطينيين على تفويت الفرصة على المتربصين والمتآمرين على مشروعنا الوطني، ولمواجهة مؤامرات الاحتلال"، هذا التصريح استوقفني للحظات، حتى ظننت أن من اعتقل المقاومين ليس السلطة، وأنها تقف بالمرصاد لمن يمس شعرة من رأسهما ورفاقهما، وأن هناك يدا خفية تحاول توريط عناصرها الذين يقفون للعدو بالمرصاد وليس للمقاومين، فانتهت لحظات الوهم في خيالي حين ورد خبر تمديد اعتقال المصعب، وأنه مستمر بإضرابه في زنازن يكبله بها أبناء وطنه..

اعتقال لا يخدم سوى الاحتلال كما صرحت فصائل المقاومة في دفاعها عن مقاتل مقدام في صفوفها، فهو ابن جبل النار الذي يعتبره العدو "المطلوب الأخطر" على كيانه في الضفة الغربية، إثر صعوبات وضعها المصعب أمام الاحتلال حين  تمكن هذا القيادي في كتائب القسام ورفاقه من تأسيس خلايا عسكرية مقاومة للمحتل واجهت خلاياه وزادت في انقساماته وتخبطه، حيث طلقات النار أشعلت النار في قلوبهم ودعتهم ليتحسسوا أجسادهم كل لحظة خوفاً من الشباب الثائر الذين يمثل حتى ظهورهم في وداع رفاقهم الشهداء رعباً للكيان، الذي ما إن شاهد لقطات الكاميرا وهي توثق تدميرهم لأسطورة "الجيش الذي لا يقهر" قُهر حتى مات قهراً؛ مثل مشهد وداع مصعب لرفيقيه عبد الرحمن صبح، ومحمد العزيزي رفقة إبراهيم النابلسي، وبعد أيام مشهد لمحمود البنا وهو يحارب دموعه من السقوط في تشييع النابلسي، وسلاحه ورفاقه يرسمون حرية وطن أقسموا على انتزاعها من المحتل..

هؤلاء المقاومون في الميادين أثبتوا ما قالوه "إننا نحن من نطارد المحتل وليس العكس"، وهذا ما برهنته العقود والأيام، فحتى الذين نالوا الشهادة منهم تجدونهم يطاردون عدوهم في السماء، ومن خلفهم رفاقهم على الأرض يوفون بالوعد ويضربون عمق الكيان، لإيمانهم بأن المقاومة هي الرد الشرعي والوحيد على جرائم العدو.

كذلك هي الرد على المصابين بمتلازمة أبو مازن التي أخذت تتفشى كالطاعون الخبيث بين منبطحين، سأتحدث عن بعضهم في الجزء الثاني.

هبة أبو طه .. فلسطين
هبة أبو طه
صحفية أردنية من أصول فلسطينية متخصّصة في مجال التحقيقات الإستقصائية ومدونة. تحلم بأن "تكتب لفلسطين بالدم" كما أوصى غسان كنفاني.