Better call Saul... رجل القانون في بدلته البرّاقة

15 سبتمبر 2020
تجاوزات جيمي هي العائق أمام محاولاته لتغيير طرقه (نتفليكس)
+ الخط -

يعرف أي مشاهد لمسلسل Better Call Saul أن جزءاً كبيراً من الصراع الذي يخوضه سول غودمان (أو جيمي ماكغيل) يتعلق بأخيه تشاك، ومحاولته انتزاع الاعتراف والتقدير منه، مروراً بعقبات عدة ومطبات تفرضها طبيعة الاثنين وعلاقتهما المعقدة.

ولحسن الحظ، فإن المسلسل الذي يحمل اسم غودمان، لم يمر بذات الطريق لينال التقدير الذي يستحقه، رغم أن كل المؤشرات كانت توحي منذ البداية بأن المهمة لن تكون سهلة، بسبب ارتباطه بـ Breaking Bad الذي يعده الكثيرون أهم عملٍ حظيت به الشاشة الصغيرة مؤخراً، في الفترة التي باتت تعرف بالعصر الذهبي الثاني للتلفزيون.

وعلى العكس، فإن "الشقيق الصغير" هذا استطاع منذ البداية برسم ملامحه الخاصة التي تنجح، بعد كل المحددات المشتركة مع Breaking Bad، بإعطاء المسلسل الهوية والسرعة الخاصتين به.


عن رحلة التحول
يمكننا أن ننظر إلى ما يشترك به المسلسلان بوصفهما عملين عن رحلتي تحول تمر بهما الشخصيات الرئيسية. فكل من والتر وجيمي يمرّان بعدة لحظات تعيد تعريفهما كلياً، ابتداءً بالجوانب السيكولوجية، وانتهاءً بتغيير اسميهما ومظهرهما وألوان ثيابهما وغير ذلك. إلا أن الانتقال في Better Call Saul يحدث بشكلٍ أبطأ، وأقل وضوحاً.

فمنذ تعرّفنا على جيمي ماكغيل في الموسم الأول، لا يبدو لنا أن هذه الشخصية تقف على نقطة بداية واضحة من القانون كشخصية والتر. وعلى النقيض، فإننا نجد أنفسنا أمام شخصيةٍ أكثر مرونة في هذا الشأن، وأكثر استعداداً لرسم الخط الفاصل بين المباح وغيره. وإذا ما كانت النقطة السابقة مغريةً لاعتبار تحوّل جيمي إلى سول أقل قسوةً، إلا أنها في الواقع منبع للتراجيديا في العمل.

إن تجاوزات جيمي، في جزء كبير من المسلسل، هي العائق أمام محاولاته لتغيير طرقه، كما يحدث في حالة صراعه مع تشاك الذي يقطع الطريق أمامه مراتٍ عدة مستنداً إلى ماضي جيمي.

أعقد من ذلك، يصعّب امتلاك جيمي لبوصلته الأخلاقية الخاصة المهمة علينا لنفهم تحوّله. وفي غالب الأوقات، فإن مأساته تبدو منطلقةً من الجهة المعاكسة لما قاله مفيستوفيليس حين عرّف عن نفسه بوصفه "جزءاً من تلك القوة التي تريد الشر دائماً، لكنها تقترف دائماً الخير" في مسرحية فاوست. ونجد أننا حتى مراحل متأخرة من السلسلة إزاء محتالٍ مرح، يسعى لتطبيق نوعٍ من العدالة بشكلٍ ملتوٍ، ولا تتماشى عقوبته مع ما اقترفه.

 

لا يبدو لنا أن شخصية جيمي ماكغيل تقف على نقطة بداية واضحة من القانون

 

ولكي نفهم هذه الفكرة بشكلٍ أفضل، علينا أن ننظر إلى الجانب الآخر، القانوني، الذي يجد جيمي نفسه في حالة صراعٍ دائمٍ معه. يتمثل هذا الجانب في Better Call Saul بشركات المحاماة، الممهورة بأسماء مؤسسيها والتي تنتهج في الواقع نظام عملٍ أشبه بالوراثي وتدار وفقاً لرغبات وانحيازات ملّاكها، مهما حاولت إظهار نفسها كجهات ذات ممارسات عقلانية.

يتضح هذا في معارضة تشاك الدائمة لإعطاء جيمي أي فرصة، والأهم حين تُقصى كريستي من الحصول على منحة بسبب ارتكابها لجريمة بسيطة كسرقة من متجر، لنفهم بشكلٍ واضح انحياز من في الشركة ووقوف جيمي معها، مؤكداً أن بوصلته لم تختف كلياً خلال تحوّله البطيء والمؤلم، الشبيه بالتهام النمل لكوز المثلجات الذي يرميه جيمي ويتأمله لاحقاً.

يكثّف العمل التحول والصراع مع مفهوم "القانون" عبر مسار شخصية مايك

تدلّنا كل هذه القطع المتناثرة أن جيمي ليس مسافراً في رحلة انتقالٍ بسيطة وحسب، بل في رحلة بحث أيضاً عن طريقة للتمرد، وهذا ما يبرر بشكلٍ أو بآخر بقاء حبيبته، كيم، بجانبه، التي تعي الحاجة إلى التمرد على هذا المفهوم وتختلف في طريقتها للقيام بهذا.

يكثّف العمل التحول والصراع مع مفهوم "القانون" عبر مسار شخصية مايك، الذي يدرك هو الآخر محدودية المفهوم ضمن النص القانوني بعد عمله ضمن جهاز الشرطة وقتله لشرطيين متورطين بقتل ابنه. ولمايك هو الآخر طريقته في التعامل مع هذا الواقع، مختاراً استبدال المنظومة الشائعة بأخرى خاصةٍ به يكون وفقاً لها "مجرماً جيداً" مثلما يفعل حين يصعّد حربه مع هيكتور بعد قتل عصابته لشخصٍ بريء، أو حين يدخل في أزمةٍ بسبب اضطراره إلى قتل فيرنر.


صناعة الوحش
عندما يعاود جيمي ماكغيل مزاولة المهنة تحت اسم سول غودمان في نهاية الموسم الرابع؛ فإننا، بحكم معرفتنا لأحداث Breaking Bad، ندرك تماماً معنى هذا التغيّر ومآله. أما في Better Call Saul، فإننا نحظى بـ "متعة" مراقبة تفكك جيمي والبحث عن عناصر الهوية الجديدة المركبة التي يتبناها.

وعلى عكس "هايزنبرغ"، فإن سول غودمان وحشٌ لا يرتدي الثياب القاتمة أو يذهب في تطرّفه بمنحى مرعب ظاهرياً، بل كوميدي يصل حد الرعب. إذ يعتمد اسم "سول غودمان" بحد ذاته على نكتة لغوية، علاوةً على رسالته القائلة إن كل شيء سيكون على ما يرام.

تشمل هذه النكتة أيضاً اختياراته للثياب ذات الألوان البرّاقة وأسلوب الدعاية والتسويق الذي ينتهجه. وإذا ما عدنا إلى بداية المسلسل، حين حاول جيمي التسويق لنفسه بطريقة "جدية"؛ فإن القانون وقف في صف هاملين ومنعه من استعمال اللون الأزرق "الهامليني"، ليشمل ميدان المعركة التسويق والاستعراض، لا القانون وحسب.

الجانب التسويقي لـ "سول غودمان" لا يقل ذكاءً وغرابةً عن ذاك القانوني، ويجعل من Better Call Saul مسلسلاً لا يجمع عدة قصص سويةً، بل عدة أنواعٍ أيضاً، مازجاً المأساة بالكوميديا الفاضحة في أروقة المحاكم وشركات المحاماة والشوارع والأماكن الأخرى التي يتسكع فيها أفراد المجتمع الخطيرون، أياً كان موقعهم على الخريطة القانونية.

لا يجمع المسلسل عدة قصص سويةً، بل عدة أنواعٍ أيضاً، مازجاً المأساة بالكوميديا الفاضحة

إن هذا الجانب "المرح" في شخصية جيمي (وسول) هو المسؤول عن ملمح الرعب في هذه الشخصية التي تلتفت إلى المشاهد لتقول له: "كل شيء سيكون على ما يرام"، بعد كل خيباتها وبعد جرّنا إلى التعاطف معها وتوقع الأسوأ. ويبدو بذلك سول غودمان الناتج المشوه لصراع الفرد مع المنظومة الفاسدة، عبر استعمال أدواتها وممارساتها بطريقة مختلفة.

لا حاجة لضربة مباغتة هائلة إذن ليقف أحدهم معلناً حرباً شاملة ضد العالم، أو هذا ما يحدث في Better Call Saul على الأقل، حيث تتراكم الإحباطات اليومية والخيانات والخيبات قبل بدء المعركة. وإن كان هذا الشكل في رسم الأحداث يسهم في صياغة شخصيات رئيسية يسهل علينا التماهي معها وتفهم انقلاب حالها، فإنه أيضاً يفسح المجال للشخصيات الأخرى لتروي قصتها هي الأخرى، كـ "تشاك" الذي لا مجال في عملٍ ذي إيقاع أسرع لتفحص شخصيته المعقدة كما يجب، أو "ناتشو" الذي لا يستغرقنا الأمر كثيراً من الوقت لنتلمّس مساره، و"دومينغو" الذي لم يعد مجرد وسيلة يكتشف عبرها والتر وايت قدرته على القتل.

وفي هذا الشأن، فإن مايك هو المستفيد الأكبر من هذا الأسلوب، الذي يسمح لنا باكتشاف الجوانب الأكثر عاطفيةً وضعفاً في شخصيته، على عكس غوستافو الذي لا نحصل على قصة تؤنسن حضوره البارد والمرعب، ونكتفي عنده بمزيد من التلميحات التي تدعم نظريات بعض متابعي Breaking Bad عن طبيعة علاقته العاطفية مع ماكس وهوسه بالانتقام لمقتله، كتعليقات لالو عن علاقتهما، أو القرية الصغيرة التي أنشأها غوستافو كإهداءٍ لذكراه.

وإذا كان انتظار الموسم القادم من مسلسلٍ بهذا الشكل أمراً مرهقاً، فإن العرقلة التي سببها فيروس كورونا المستجد ستزيد المهمة صعوبةً، بعد توقع تأخر صدور الموسم السادس والأخير حتى النصف الثاني من عام 2021، بكل ما سيحتويه من أمورٍ ينتظر المتابعون اكتشافها كاتصال عالمي المسلسلين ونهاية قصة سول الذي بتنا نعرف أن سعيه وراء حياة جديدة كلياً بات مهدداً بالفشل.

دلالات
المساهمون