الجماعات وجنون الاضطهاد أو جنون العظمة

09 يوليو 2015
+ الخط -
"الأحداث الأخيرة تؤكد نموذج البارانويا الذي يمثله الرئيس عبد الفتاح السيسي"، هكذا كتبت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، في تقرير نشرته بعد أحكام الإعدام الجماعية بحق الرئيس السابق، محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين. ولم يمر وقت طويل، قبل أن ترد بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة على هذه الأحكام باغتيال النائب العام، هشام بركات، ثم أعقبه هجوم مسلح على مراكز الجيش المصري في سيناء، أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. إذن، نحن أمام فعل وردة فعل أعقبهما ثأر وثأر مضاد في الإتجاهين.
نجد في الفن المسرحي انعكاساً لحالة الإقصاء المتبادل للجماعات المتحاربة في العالم العربي، على غرار التي حدثت في مصر، ويعرف ذلك بلعبة "القاهر والمقهور". لنتصور رجلاً يعذب آخر فترة طويلة، وعندما يحصل الشخص الذي وقع عليه الإضطهاد على القوة والسلطة، سيتحول إلى شخصية قاهرة، ويمارس رد فعل شبيه بالفعل الذي تعرض له. الشهوة المقهورة تصير قاهرة، وهكذا تقلب بارانويا الإضطهاد إلى وجهها الآخر، بارانويا العظمة، في دوامة لا نهاية لها، مولدة العنف والعنف المضاد.
والبارانويا مرض نفسي مزمن يتسم بالتوهم والإيمان الوثيق، بالتعرض للإضطهاد أو بالعظمة، والمصاب به يشكو من هذاء عقلي، يتميز باعتقاد باطل، لكنه راسخ، على الرغم من عدم قيام الأدلة الموضوعية على حدوثه. ويشعر مريض البارانويا بالكراهية والحقد والغضب تجاه الآخرين، وتزايد الشكوك بكل من يتعامل معهم، باعتبارهم أعداء يريدون إيذاءه.
هل تنطبق سلوكيات البارانويا الفردية على الجماعات؟ نعم.
‮ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬يمكن مشاهدة ذلك في وجوه مقاتلي "الدولة الإسلامية"، عندما يتسابقون على شاحناتهم، ويلوحون بالرايات السوداء، وقبضات أيديهم مرتفعة مشدودة، فرحين بذبح "الكفار" الذين لم يعتنقوا الإسلام. وما يحصل خليط بيوكيميائي محفز ناتج عن خلط هرمون أوكسيتوسين Oxytocin مع عينة أكبر من هرمون تستوستيرون Testosterone، وعند ارتفاع نسبة التفاعلات في الدم، يشحن المزاج الشامل للفرد بعصبية الإنتماء إلى الجماعة، وآثاره السلبية قد تكون مدمرة إذا لم تقترن بالوعي والإتزان والسيطرة. فإن الفرد سيكون على استعداد أكبر للتضحية بنفسه في المعركة، أو تفجير جسده دفاعاً عن الهوية الجماعية. يعطي هذا التفاعل الهرموني الفرد شعوراً بالحياة، حتى لو خسر حياته كفرد.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
"الحرب مع المجموعات التكفيرية في سورية وجودية حضارية تدور بين مشروع ظلامي إلغائي (والآخر) أياً كان إنتماؤه". قال الأمين العام لحزب الله. وبالمثل، ردت جبهة النصرة على لسان أميرها، أبو محمد الجولاني، الذي قال:"حزب الله زائل لا محالة، ولدى الجبهة ثأر مع العلويين الذين قتلوا وعذبوا السوريين واغتصبوا النساء"، وأضاف:"الإتهامات الموجهة للجبهة بالإرهاب هي محاولات لشيطنتها ونحن ندافع عن المسلمين". في حين دعا رئيس حزب التوحيد العربي، وئام وهاب، "إلى تسليح الدروز وتشكيل جيش يضم 200 ألف مقاتل لحماية المناطق الدرزية". إنها صراعات تتميز "بالمحاكاة" كطفلين يريدان اللعبة نفسها، ويؤدي صراعهما إلى انقسام نفسي بين عالمين: عالم ذاتي على صواب، وعالم آخر معاد على خطأ.
إنها حال جماعاتٍ عديدة في الشرق الأوسط التي تعمل على إسقاط أفكار سلبية عن جماعة محددة مختلفة، وتحميلها وزر كل الأزمات والحروب، في محاولة تمهيدية لتبرير قتلها. ويفسر علم النفس أن "إضطهاد أقلية ما يعطي قوة للأكثرية، وكثرة الموت تقوي العقائد وتعطيها أحقية وطاقة للإستمرار، ويرفق ذلك كله بتضخم الذات الفردية والجماعية، وعدم إستيعاب طروحات مختلفة، ومحاولة تدمير كل معارض".
تعمل هذه الجماعات المصابة بالبارانويا إلى توحيد شعبها، بإيجاد عدو مشترك، وإيجاد أجواء الخوف والخطر المحدق لتبرير ردات الفعل العنيفة بحجة الاحتياط وتجنب الكوارث. وكلها آليات مرضية، بدأت تظهر عوارضها التقسيمية في المجتمعات العربية، فلا يتم ذكر الطائفة العلوية من دون ذكر إمكانية قيام الدولة العلوية، ويترافق ذكر الأكراد مع أصوات تتصاعد مطالبة بدولة كردية مستقلة.
تشبه نزعة البارانويا الجماعية، إلى حد كبير، القانون الفيزيائي القائل إن "مقدار الضغط يولد مقداراً موازياً من الإنفجار، ولكل فعل ردة فعل مساوية في القوة". في التاريخ أمثلة كثيرة عن الجماعات التي أصيبت بالبارانويا. وفي أميركا نجد النزعة عند الزنوج الذين يعتقدون أن العنف الأبيض يجب أن يرد عليه بعنف مضاد. وفي أوروبا، لا ينتهي الحديث عن "المحرقة اليهودية".
وترتبط البارانويا بالتضحية، فمن يشعر بالإختناق ليس أمامه سوى حلين: الانتحار أو قتل شخص آخر، أي التضحية بنفسه أو التضحية بالآخرين. ويمكن تشبيه الجماعات العربية المتناحرة بالفرد المختنق. تخبرنا القصص الدينية القديمة كيف كان الكهنة يبنون المعابد على قبور أعدائهم القتلى، لاعتقادهم أن الأساس سيكون أمتن بفعل التضحية. وهناك رابط بين الاكتئاب والبارانويا، حيث نجد في قضايا التحليل النفسي كيف أن "امرأة مكتئبة اعتدت على جيرانها لكي تتجنب الانتحار. ولذلك، اضطرت إلى توجيه العنف نحو جيرانها". من هنا، وبفعل الخوف، أصبحت حاجة الجماعة إلى كبش فداء لتبرير حروبها.


avata
avata
فراس حمية (لبنان)
فراس حمية (لبنان)