البلد بلدهم!

10 ديسمبر 2014

عدنا إلى ما هو أبعد من الوراء (Getty)

+ الخط -

"من كان السلاح معه فمن عليه؟"، هكذا يفكر نظام السيسي الذي لم يعد منشغلاً حتى ببقاء أوراق توت تستر انتهاكه لكل ما بدستوره من "كلام ابن عم حديت" عن الحريات وحقوق المواطنة، ولم يعد رجاله مهتمين بمراعاة احترام تعهدات رئيسهم بعدم العودة إلى الوراء، لأنهم يعلمون، كما نعلم، أن الوراء صار حلماً بعيد المنال، بعد أن عدنا إلى ما هو أبعد منه، وأشد كآبة وقبحاً، حيث لم تعد دولة الضباط تطبق صامتة شعار "البلد بلدنا ونعمل ما بدا لنا"، تاركة لمن يعارضها الحد الأدنى من الفتات، كما كان يحدث أيام مبارك، بل صارت حريصة على التنكيل بكل من يعترض على احتكارها لخيرات البلد أو يحاول الحصول على فتات حقوقه.

إذا كنت لا تزال تحتاج لتأكيد على ذلك، فدونك مثلاً ما جرى للكاتب والشاعر عربي كمال، العضو المؤسس بحزب الدستور وقبله بحركة كفاية، والذي ظن أنه نال حقه في العمل بفضل ثورة يناير، حين وافق مجلس الوزراء في 15 ديسمبر 2011 على تعيين حاملي الماجستير والدكتوراه من أعوام 2002 إلى 2012 في وظائف حكومية، وتم ترشيحه للعمل محامياً بالهيئة القومية لسكك حديد مصر، وتسلم جواب تعيينه بعد معاناة في 9 يناير 2014، وقام في نفس اليوم بإكمال تسليم أوراقه للهيئة، وحين طلب استلام عمله قيل له إن الهيئة تنتظر تحريات الأمن الوطني، رغم أن مسوغات التعيين لا تشترط وجود تحريات أمنية، ليستلم زملاؤه أعمالهم، في حين ظل هو لأشهر محروماً منه لأن الجهات الأمنية لا زالت تتحرى عنه.

في تظلماته التي قدمها لعدد من الجهات، من بينها المجلس القومي لحقوق الإنسان، حرص عربي كمال على أن ينفي عن نفسه وأسرته وجود أي تهمة حتى لو كانت تهمة لا يعاقب عليها قانوناً، مثل تهمة الانتماء إلى أي تيار ديني، خاصة بعد أن أصبح الكل ـ دولة وشعباً ـ يستسهل إهدار حقوق كل من ينتسب لجماعة الإخوان أو من يشتبه في انتسابه لها أو حتى من يدافع عن حقوق المنتسبين لها. ولكي يرضي محاكم التفتيش الأمنية قام عربي بتقديم ما يفيد أنه كان ضد جماعة الإخوان في مقالات صحافية وبرامج تلفزيونية، بل وقام بتقديم أغنية في مديح ميدان التحرير أنتجتها الإذاعة المصرية أيام كان الاحتفاء بميدان التحرير موضة إعلامية مطلوبة، ولا تزال الأغنية تذاع في إذاعة القاهرة الكبرى كمقدمة لأحد برامجها، ومن يدري ربما يتم إصلاح هذا "الخطأ الفادح" قريباً.

في 23 نوفمبر الماضي، فوجئ عربي كمال بأن أمن هيئة السكة الحديد يخبره بوصول إفادة من الأمن الوطني بالاعتراض على تعيينه، ولأن الأجهزة الأمنية أصبحت تدرك أنها فوق كل حساب أو مراقبة، فقد تم منح عربي ورقة رسمية تفيد بمنع تعيينه لوجود اعتراضات أمنية، وحين حاول أحد أصدقائه من الصحافيين تحري المسألة مع الأمن الوطني لتصحيح أي لبس محتمل، قال ضابط أمن وطني له: "العيال بتوع كفاية و6 ابريل مالهمش تعيين"، في حين قال ضابط آخر أكثر وضوحاً ولزوجة "قول لبتاع كفاية.. كفاية عليك كده مالكش أكل عيش عندنا"، ليقوم عربي بتقديم بلاغ للنائب العام ضد وزير الداخلية وضد الهيئة وضد نفسه للتحقيق معه لكشف أسباب خطورته على الأمن العام، خاصة بعد أن اعترف ممثل الهيئة في برنامج تلفزيوني بالمستند الذي يثبت رفض عربي كمال لأسباب أمنية، وهو ما يجعل لديه ميزة قانونية، لا تتوفر لمواطنين كثيرين لا يمتلكون خبرة قانونية ولا يجدون أحداً يوصل مظالمهم للناس.

قبل عام ونصف، حين كانت أصوات إعلامية وسياسية قليلة تعترض على سياسات العقاب الجماعي لأنصار جماعة الإخوان التي تهدر كافة حقوقهم الإنسانية، وتحذر من خطورة آثار ذلك على الجميع في المستقبل، وتدعو الشعب لرفض منح تفويض مجاني لشخص أو لمؤسسة دون وجود التزامات واضحة وآليات للحساب والعقاب، كان أصحابها يتهمون بأنهم خلايا نائمة وطابور خامس وخونة ممولون من الخارج، لتُفرض على البلاد منذ ذلك الوقت حالة خرس متصاعدة، تغوّلت في ظلها الدولة الأمنية وفَجَرت، واستباحت حقوق كل من يعترض على تصرفات سلطة السيسي أياً كان انتماؤه، وقريباً لن يكون غريباً ولا مستبعداً، معاقبة كل من لا يعلن مبايعته للسيسي بمثل ما كان يُبايع به حكام سورية والعراق وليبيا الذين يسير السيسي على كتالوجهم في الحكم، ويظن أنه سيصل بفضل الرؤى والمنامات والهواتف التي تأتيه إلى نتائج مختلفة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.