تدمير القطن المصري

09 يناير 2015
تاريخياً اقترن اسم مصر دائماً بالقطن المصري فائق الجودة(أرشيف/Getty)
+ الخط -

قررت الحكومة المصرية مؤخراً تخليها عن مسؤوليتها بالكامل تجاه محصول القطن المصري، وطالب وزير الزراعة، عادل البلتاجي، المزارعين بالتأكد من وجود تعاقد لمحصولهم من القطن قبل زراعته، وفى حالة عدم وجود تعاقد نصحهم الوزير بعدم زراعته، في ظل تراجع الطلب العالمي على القطن المصري، وعدم تطوير مصانع النسيج في البلاد وانخفاض الأسعار.

وقال وزير الصناعة والتجارة، منير فخري عبدالنور، إن الحكومة لن تستمر فى إنتاج سلعة لن تجد لها تسويقاً، وإنه اجتمع مع المجلس الأعلى للنسيج، ومع غرفة النسيج وممثلي الصناعة قبل اتخاذ القرار.

وفي المقابل، فند حسن عشرة رئيس مجلس التصديرين للغزل والنسيج، كلام المسؤولين، حينما أكد أن القرار تم اتخاذه من دون مناقشته مع أصحاب المصلحة، وأن القرار سيؤثر سلبا على الفلاح. ورفض عشرة تبرير وزير الزراعة هذه الخطوة، بعدم وجود مصانع غزل متطورة في مصر.

وقال إنه أمر يجافي الحقيقة، ودعا الرجل الوزير إلى زيارة مصانع القطاع الخاص في مدن السادات
وبرج العرب والعاشر من رمضان، حيث توجد قلاع صناعية لصناعة الغزل بأحدث تكنولوجيا عالمية تماثل نظيرتها فى كبرى الدول، وشدد على أنه رغم تلك المعوقات، فإن السوق العالمية ما زالت تتهافت على القطن المصري ذى الجودة العالية، وليس صحيحا أنه ليست له سوق.

وحسب رئيس مجلس التصديرين للغزل والنسيج، فإن القطن المصري يعاني من تراجع مستواه، نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وخلط الأنواع، وهي مهمة وزارة الزراعة.

وتاريخياً، اقترن اسم مصر دائماً بالقطن المصري فائق الجودة، ولها سمعة عالمية في إنتاج الأقطان طويلة التيلة وفائقة الطول بلا منافس. ويعتبر محصول القطن من المحاصيل التي تستوعب حجما كبيرا من العمالة الزراعية والصناعية، وساهم في علاج مشكلة البطالة المتزايدة، حيث تقدر نسبة العمالة للمشتغلين في محصول القطن ومنتجاته بحوالى 30% من قوة سوق العمل المصري (الزراعة- التسويق- التصنيع- التصدير).

والصناعات النسيجية تمثل 70% من جملة الصادرات المصرية، انخفضت إلى 10% عام 2012، وكانت أسعار تصدير القطن المصري تزيد عن أسعار قطن البيما الأميركي المنافس الرئيس، بنسب تتراوح بين 30% و130% حتى النصف الثاني من الثمانينيات.

وكان القطن صلب الأمن الغذائي المصري، كما كان صلب الصادرات، فقنطار القطن (150 كيلوجراما)، يخرج منه 55 كيلو قطن شعر للتصدير، و100 كيلو بذرة، تعطينا 20 كيلو من زيت الطعام، أصبحنا نستورده بالكامل تقريباً، كما أن البذرة تعطي 75 كيلو من علف الحيوان "الكسب"، تنتج 9 جرامات من اللحوم الحيوانية في مشروع البتلو الشهير.

وكان المختصون يعقدون الآمال على هذا المحصول للنهوض بالاقتصاد المصري مرة أخرى، ففي ورشة عمل عن الملكية الفكرية في جامعة الدول العربية بالقاهرة أواخر عام 2009، كنت أحد الباحثين المصريين المشاركين فيها، ووجه أحد الزملاء سؤالاً لمدير مكتب الملكية الفكرية في الأمم المتحدة عما يقترحه من صناعات يمكن أن تقطر الاقتصاد المصري وتنتشله من كبوته؟ فأشار الرجل إلى قميصه الذي يرتديه، وقال إنه اشتراه من باريس بسعر عال جداً لأنه مصنوع من القطن المصري، وتعجب الرجل: كيف لا تقوم مصر بتصنيع هذه المنسوجات داخل مصانعها وتستفيد من القيمة المضافة المتولدة من هذه الصناعة في تشغيل الشباب وبناء مزيد من المصانع بدلاً من الاكتفاء بإنتاج وتصدير القطن.

أيضاً يوجد محلات للملابس في الولايات المتحدة نفسها تبيع منتجاتها النسجية بأسعار عالية جداً
 لأنها مصنوعة من أقطان مصرية فقط، ويقصد هذه المحلات الزبائن من كثير من الدول بما فيها دول الخليج العربي وآسيا وأوروبا، وهي الدولة التي تصدر وتنافس القطن المصري.

والواقع أن الحكومة المصرية بقيادة يوسف والي نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الزراعة إبان حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، قد بدأت سياسات زراعية لتحرير زراعة وتجارة القطن بداية من عام 1994، وهو ما خفض المساحة المزروعة قطنا من 2 مليون فدان في عام إلى 280 ألف فدان في عهد أمين أباظة آخر وزير للزراعة في عهد المخلوع مبارك والمتخصص في تجارة الأقطان.

وهي أقل مساحة للقطن زرعتها مصر على مدار 200 عام، كما انخفضت إنتاجية الفدان إلى 6 قناطير مقارنة بـ16 قنطارا في أميركا و18 قنطارا في إسرائيل، بعد تطوير هذه الدول لأصناف القطن المصرية، بالتعاون مع يوسف والي، الذي يتهمه المصريون بتدمير الزراعة المصرية عامة ومحصول القطن المصري على وجه الخصوص، وهو المحصول الذي كان متربعاً على عرش الأقطان العالمية حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي.

كما أدى ذلك إلى تدمير صناعة الغزل والنسيج، التي تشغّل وحدها 25% من العمالة في مصر، وزيادة الفجوة في زيت بذرة القطن الناتج عن عصر البذور إلى 93% بتنا نستوردها بالكامل من الخارج، ووصل الأمر إلى بيع العديد من المحالج في عهد وزير الاستثمار الأسبق محمود محيي الدين.

وفقدت مصر معظم أسواق التصدير لحساب الأقطان المنافسة، وعلى رأسها قطن البيما الأميركي الذي حل محل القطن المصري في السوق العالمي، كما تخلت الدولة عن شراء القطن من المزارعين، في الوقت الذي يزيد فيه دعم الدول لمزارعي القطن مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تقدم دعماً لمزارعي القطن بنسبة 100% من تكاليف الإنتاج، وهي أعلى معدل دعم للمحاصيل الأميركية بعد الذرة.

كما زاد دعم الاتحاد الأوروبي لمنتجي القطن في اليونان وإسبانيا إلى ضعف السعر العالمي، مما أخرج القطن المصري من المنافسة في السوق العالمية، بل وسمحت الحكومة المصرية بشراء أقطان ذات جودةٍ رديئة مقارنة بالقطن المصري، طمعاً في السعر المنخفض، وهو ما ساهم في تكدس المخازن بالقطن من العام الماضي.

ومؤخراً أقدم عدد من مزارعي القطن على حرق المحصول في الحقل، لعدم جدوى حصاده وتردي الإنتاجية، بسبب فساد التقاوي، وارتفاع أسعار المبيدات والوقود، والأيدي العاملة، ما دفع الحكومة إلى تقديم دعم للمزارعين قدره 1400 جنيه للفدان، وهو ما يعتبره المختصون تعويضاً عن تردي الإنتاجية، بسبب فساد التقاوي التي وزعتها الحكومة على المزارعين.

فهل يتخلى نظام 3 يوليو عن القطن المصري ويدير ظهره للفلاح المصري الذي طالما
استفادت منه الحكومات السابقة على مدار العقود الماضة بنظام التسويق الإجباري للمحاصيل، حيث كانت تشتري القطن من المزارعين بسعر منخفض إجبارياً ثم تصدره بأسعار مرتفعة، ففي عام 1970 على سبيل المثال كانت الحكومة تشتري القطن بسعر 14.5 جنيها للقنطار ثم يتم تصديره بعد ذلك بسعر 20.5 جنيه للقنطار، وكان الفرق بين أسعار الشراء في الداخل والخارج يساوي 20% من الميزانية العامة للدولة، وقد وصلت التحويلات الصناعية من الزراعة بهذه الطريقة ما يعادل 5.5 مليارات جنيه في عام 1975، وهو ما يشكل 30% من الميزانية في ذلك الحين استخدمتها الدولة في بناء قلعة الصناعة والإنفاق على تجهيز الجيش المصري في حروبه مع العدو الصهيوني؟.
دلالات
المساهمون