بعد أكثر من شهر على انفجار مرفأ بيروت الذي أدى إلى مقتل 190 شخصاً وإصابة 6 آلاف، وتشريد 300 ألف شخص، لا يزال الأسى والحزن يخنقان من عايشوا الانفجار. فتستمرّ آثار اضطراب ما بعد الصدمة، فيما تزيد الحياة السياسية والأزمة الاقتصادية والأوضاع المعيشية المتردّية من صعوبة إيجاد مخرجٍ من الظّلمة التي دخل كثيرون فيها بعد الرابع من أغسطس/آب الماضي.
في ظلّ تعدد القضايا وتسارع الأحداث وتزاحم الأولويات، يرى مواطنون أنّ قضيّتهم الأقسى (أي الانفجار وآثاره) لم تعد مهمةً بالنسبة لعدد كبير من الوسائل الإعلامية، كذلك الأمر بالنسبة للمسؤولين الذين سارعوا في القفز فوق أوجاع الناس ليتحدثوا عن صفقات ومحسوبيات و"استمرارية" في الحكم.
والضرر هنا ليس مادياً فقط، فبينما تكثّفت التقارير التي تحكي عن الخراب الذي خلّفه انفجار بيروت، بقيت قصص شخصية، وذكريات وتجارب يومية أساسية، خارج القصّة الصحافية. في تلك الشوارع، هناك المقاهي والمدارس والمكاتب والمقرّات، والأماكن التي تجمع الناس على اختلافهم. هناك الذكريات والعلاقات والأمل بالتغيير وبغدٍ أفضل.
هنا، تُجيب أربع نساء لـ"العربي الجديد" عن سؤال: "ماذا خسرتِ من الانفجار؟".
رواند عيسى، رسامة ومصممة غرافيكس
خسرنا الشعور بالأمان. أعتقد أنّ هذا شعورٌ عام حالياً. سابقاً، كان أصدقائي يلاقون مخاوفي من المباني القديمة واحتمال سقوطها بالتخفيف عنّي، على اعتبار أنّ حادثاً كهذا سيسبقه إنذارٌ ما. اليوم، بعد الانفجار، بتنا نرى أنّ مخاوفنا كانت كلّها حقيقية. والأكثر رعباً أنّي لم أعد أملك الحجج التي تُخفّف خوفي عليّ. لم أعد أستطيع أن أنفيه.
أعتقد أنّنا خسرنا شيئاً ما بداخلنا. لم نعد نستطيع أن نتواصل مع بعضنا كما في السابق. أشعر بأني خسرتُ أصدقائي، إذ لم نعد نقوى على الكلام. الرعب يتملّكنا ويشلّنا. كلّ ما نفكّر فيه هو كيفية الهرب من هنا. تلفّنا الصدمة، ونغرق في الانفجار ولحظته وتأثيراته، وكأنّ كل ما لا يتعلّق به لم يعد مهماً. لم نعد نستطيع أن نعيش بشكلٍ طبيعي.
خسارتي الأخرى هي الشعور بالانتماء. بعد انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر 2019)، عاد لينمو بداخلنا شعور بالانتماء لهذا البلد، وكنّا نفكّر في الانضمام لنقابات والمشاركة في أحزاب، لكنّ كلّ ذلك اختفى في ثوانٍ. كلّ هذا العجز الذي شعرنا به بعد الانفجار، يحتاج لعلاج طويل لنشفى منه. سابقاً، كنت على يقين بأنّي أستطيع أن أخلق شيئاً من اللاشيء، من التراكم والتجمعات والخبرات والأسس التي تجعلنا نصل إلى مكان ما… اليوم، فقدتُ الأمل بكل ذلك. كلّ ما أفكّر فيه هو طريقة النجاة.
مايا العمار، كاتبة وناشطة نسوية
بالنسبة لي، مايا المراهقة هناك، في تلك الشوارع. في مار مخايل والجميزة كبرت وتعلّمت الكثير وخالطتُ أشخاصاً لا أعرفهم. هناك كان المنزل الذي كبرت فيه أمي، وفيه طفولتي، حيث كنتُ أمرّ لأتفقّد الحيّ الذي كان لا يزال حياً. اليوم، ذكرياتي التي كانت تعيش، وتشير إلى طفولتي ومراهقتي وفترة كبيرة من حياتي فقدتها. حين كبرت، بقيتُ ألتقي بمن أحبّهم في تلك الشوارع، وكان الخروج مرتبطاً بها. اليوم، لم أعد أتحدث عن الخروج مطلقاً، فعدم قدرتي على قول "بلاقيك بمار مخايل" جعلني غير قادرة على قول "بلاقيك" من الأصل. فحتى الشوارع الأخرى التي بقيت سليمة في بيروت، كأنّها اختفت باختفاء الشوارع المدمّرة.
كانت منطقة الانفجار تستوعب كمية تنوع رهيبة بين الأجيال والفئات والثقافات، وكانت من الملاذات الآمنة الأخيرة في بيروت، وبالتالي فإنّ فكرة فقدان الشوارع تنعكس شعوراً بفقدان تلك المساحة وذَيْنِك الاختلاف والأمان.
شعورٌ عام باليأس وفقدان الأمل بالتغيير السياسي أو بأي انفراج
لم يطاول الانفجار فقط الساكنين في بيروت، بل وصلت موجته إلى "المنتشرين" حول العالم، من لبنانيين مغتربين، وعرب يعرفون بيروت ووجعها، وعاشوا فيها أيام سكينةٍ بعيداً عن ظلم يضطهدهم.
بشرى دندش، معدّة ومنتجة إعلامية
خسرت نسبة الواحد في المائة من الأمل الذي كان متبقياً بأن أعود إلى لبنان يوماً ما. وفي الوقت نفسه، خسرتُ الراحة التي غادرت بلدي كي أحصل عليها. خسرتُ شعور أنّي كائنٌ له أحلام وطموحات، ولم أعد أكترث لشيء.
في الانفجار، خسرنا بيتنا. بات كلّ همي أن يخرج أحبائي من لبنان. باتت السيناريوهات السوداوية تملأ رأسي، إذ بتّ أحسّ بأني سأخسر من أحبّ في أي لحظة، وذلك في حدّ ذاته دمار. صرتُ أتخايل نفسي في المنزل لحظة الانفجار، وما الذي كان سيحصل لو كنت هناك.
لقد خسرنا ذكرياتنا و"المطارح... بطّل عنّا شي".
عبير غطاس، باحثة وحقوقية
أخذ الانفجار كلّ شيء. نعم، أعتقد أنّه أخذ كل شيء. لكن بالخصوص، انتزع منّا ما نألفه. تركتُ لبنان منذ فترة، ولم يكن خياراً سعيداً. لكنّي كنتُ دوماً أنتظر أن أعود إليه، أن أعود لأدخل هذا المقهى وتلك الحانة، وأجول في تلك المحلات، وأمشي في هذا الشارع، أو أن أحاول ركن السيارة في موقفٍ وأتشاجر مع الـvalet. أخذوا كلّ ذلك، كلّ المألوف.
أنا خائفة من العودة إلى مكانٍ لا أعرفه. لأماكن تحمل ذكرياتي ولم تعد موجودة. في الخارج أنا لا أشتاق للأرزة أو للكبة النية أو للطبقة الحاكمة، أشتاق "للمطارح" والناس التي كانت معي فيها، وهم أخذوا كلّ ذلك.
بعد شهرٍ من الانفجار، أرى أنّه أخذ معه أيضاً فكرة التغيير نفسها. فحتى بعد انفجار هائل بهذا الحجم لم يتغيّر شيء. أخذوا الأمل، "عنجد". كنا نقول: "ربّما إذا كبرت المصيبة سيتغيّر شيء"، لكن اليوم، "ولعت الدني والناس ماتت وتكسّرت البيوت وحلّت المصيبة، وما في شي تغيّر". لقد أخذوا كلّ شيء، حتى الأمل.