33 عاماً على استشهاد صاحب حنظلة.. ما زالوا في الخلف يا ناجي

29 اغسطس 2020
التسوية والتطبيع كما رآهما ناجي العلي (اللوحة من أسرة الفنان)
+ الخط -

أدار الفنّان الشهيد، ناجي العلي، ظهر "حنظلة" برأسه المدوَّر كالشمس وثيابه المرقّعة وقدميه الحافيتين، وأودعه حكايته، ليصبح رمز اللاجئين الفلسطينيين، وكتّف يديه "كي لا يشارك في عملية التطويع والتطبيع الشاملة"، فغدا رمزاً لرفض المساومة مع الاحتلال، وأكسبه الحجر والبندقية فأمسى بوصلة لفلسطين والبلاد المُعذّبة.

حين أطلقت يد "الموساد الإسرائيلي" الرصاص من مسدّس كاتم للصوت عليه في لندن (1987)، سقط ناجي على الأرض وأفلتت من يديه مجموعة لوحات كاريكاتورية ابتلّ بعضها بالدم، وقفز حنظلة من تلك الأوراق إلى فضاء العالم يجول، وقد صار قوّة تعبيرية للثورة على الاستعمار، يزاحم "غيفارا" في الملابس المطبوعة، وينافس الرموز الدينية في السناسيل، وشعارات الأحزاب على الجدران.

نسي الكثيرون مغزى إدارة حنظلة لظهره وعدم استدارته نحونا، تارةً كان يريدنا أن نقف خلفه نشهد القضايا مُعرّاة كما هي، وفي لوحات يسبقنا ليقول لنا: "هذه فلسطين"، فنشهد ظهره لأنه يسبقنا دائماً، وفي أخرى يعلّمنا أن ندير ظهورنا لكل مساومٍ يدّعي الوطنية. بعد أكثر من ثلاثين عاماً، يخطر على البال تساؤل: وظهر حنظلة لا يزال يبدو لنا، هل نقف في الجانب المفترض لنا أن نكون عليه من حنظلة؟! هل حنظلة الذي يدير لنا ظهره أم نحن الذين كفانا الوقوف في الخلف؟

وللمفارقة، بدلاً من البحث عن مدلولات تساؤُل مجازي من هذا النوع، ذهبت مجموعة من الهواة وبعض رسّامي الكاريكاتير إلى العبث بـِ"حنظلة" كإجباره على أن يلتفت، أو اختلاق الملامح لوجهٍ لم يروه. وفي مقابل عدم التقليل من أهمية التقدير لفكرة ناجي بأن تكون حاضرة في أعمال الناشئين في الرسم، أو حتى باستحضاره في لوحات الرسّامين المحترفين كإشارة إلى ناجي، يصبح النقد ضرورةً لفكرة انتحال الهوية البصرية الخاصة بناجي وتتبّع حنظلة حين يُخرَج عن سياقه الرمزي الوظيفي، لإبراز الشعرة التي تفصل بين هذه وتلك.

وكان للرسّامين الذين ينشرون أعمالهم محلياً وعلى مستوى الوطن العربي، في الصحف أو مواقع التواصل، نصيب في السقوط في مثل هذا المزلق، مثل رسم حنظلة وأحياناً أمّه فاطمة التي ابتدعها ناجي، في ابتذال ركيك لأفكار مختلفة أو مكرّرة أحياناً، حتى على مستوى العالم، انتشر قبل عامين على مواقع تركية رسم كاريكاتوري للرئيس أدروغان يحمل حنظلة كطفل صغير، تخيّلوا! 

سقط ناجي على الأرض وقفز حنظلة من أوراقه إلى العالم

وقبل أيام، انتشر عمل غرافيتي لفنّان الشارع النرويجي أكسل كنودسين المعروف بـ"AFK" في وسط مدينة بيرغن على الساحل الغربي للنرويج بعنوان "النكبة الجديدة 2020"، تنديداً بمخطّط الاحتلال القاضي بضمّ أراضٍ في المناطق المحتلّة عام 1967 من أرض فلسطين الكاملة، يصوّر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى جانب صهره المستشار جاريد كوشنر الذي يظهر في العمل وهو يضغط بركبته على رقبة "حنظلة" الممدَّد تحت أقدامهم. وبالرغم من أن مغزى العمل التضامن ورسالة إلى العالم، ولكن في البُعد النقدي للصورة، فقد أظهرت الثلاثة الواقفين بصور مقاربة لملامح وجوههم الطبيعية، وأبقت على حنظلة "الكاريكاتوري" كما هو، فظهر الفلسطيني كما لو أنه مُشوّه، وأُهين "حنظلة"  - عن غير قصد - برسمه على غير وضعه الذي خُلِقَ عليه (المقاومة، ورفض المساومة، وحب الحياة).

يثير ما سبق أسئلةً حول مدى الغِنى الفني والثقافي الذي يمتلكه الراسم لحنظلة هذه الأيام، وإلى أي مدى يحمل من الهَم الفردي والجماعي ما يجعله متوهّجاً للتعبير عن ذاته بشكل أصيل ومنفرد يلتقي بالهَم الجماعي.

الصورة
ناجي العلي - القسم الثقافي

 

عندما رسم ناجي العلي "حنظلة" أودعه قصّتَه الشخصية، فهو لاجئ فلسطيني ابن مخيم "عين الحلوة"، جنوب لبنان، مثله، ومثله خرج من فلسطين وقت "النكبة" حين كان يبلغ من العمر عشرة أعوام، باستثناء أن "حنظلة" لا تسري عليه قوانين الطبيعة، لذا بقي بهذا السن إلى أن يعود إلى أرضه ويستعيد الإنسان العربي حريته وكرامته. فكان رسمه وتعبيره منسجماً تماماً مع سلوكه وهمّه الفردي الجماعي، حتى في ألوانه التي تعكس طريقته في تصويب الأمور، الأسود مقابل الأبيض، مقاومة الاحتلال مقابلها التطبيع والمساومة، المسؤول المترهل مقابله اللاجئ المستضعف والمجوَّع، ... إلخ.

في واحد من الحوارات القليلة التي أجريت معه (أجرته الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور ونُشر فى مجلة "المواجهة" في القاهرة عام 1985)، يقول ناجي: "إنّ شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة حفظت روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل أو بأنني أكاد أغفو أو أهمل واجبي، أشعر بأن هذا الطفل كنقطة ماء على جبيني يصحّيني ويدفعني إلى الحرص، ويحرسني من الخطأ والضياع. إنه كالبوصلة بالنسبة لي، وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين. وليس فقط إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي ولكن بالمعنى الإنساني والرمزي، أي القضية العادلة أينما كانت في مصر أو في فيتنام أو في أفريقيا الجنوبية".

هل يدير لنا ظهره أم نحن الذين كفانا الوقوف في الخلف؟

ناجي المثقّف والفنان، كما فرانز فانون، الطبيب النفسي والمفكر، كان يؤمن بأن العنف لا يوقفه إلا العنف، فحرّض على مقاومة الاحتلال، وكما اختار فانون أن ينحاز إلى المستضعفين والمُستَعمَرين، اختار ناجي اصطفافه: "أنا شخصياً منحاز لطبقتي، منحاز للفقراء، أنا لا أُغالط روحي ولا أتملّق أحداً، الفقراء هم الذين يموتون وهم الذين يعانون معاناة المناضل الحقيقي دائم العطاء"، فكان "المثقف العضوي" الذي يعبّر عن تطلعات مجتمعه ويصوّبهم في آن، ويزعج السلطات في قرعه جدران خزّان دلّه عليها رفيقه غسان قبل أن يستشهد هو الآخر، لتُثار أسئلة على نحو قريب عن دور المثقّف والفنّان هذه الأيام.

بين الفكرة والأداة، ظلّ ناجي يطوِّر كليهما، قارئاً ومستبصراً للأحداث. ففي الوقت الذي تنبّأ فيه بانتفاضة الحجارة (1987)، وبناء جدار الفصل في الجزء المحتل من فلسطين عام 1967 في أعماله، كان يجري تجاربه الفنية بأن يرسم بمادة "الزفت" المشتقة من النفط، كما يروي الشاعر والروائي الفلسطيني محمد الأسعد، الذي كان قريباً من تجربة ناجي العلي إبان حياة الاثنين في الكويت.

رفض ناجي التسوية في المنطقة العربية مع الاحتلال بشكل مطلق، وكان يردّد باستمرار: "ليس من حقّ أكبر رأس أن يوقّع وثيقة استسلام وتنازل لإسرائيل"، وقد جاءت "أوسلو" التي حذر منها مبكراً بعد اغتياله بستّ سنوات. ورغم أن الشبهات دارت أيضاً حول أطراف فلسطينيّة هدّدت ناجي قبل اغتياله، إلا أن قلة الوفاء لإرثه الثقافي والفني كانت أفظع، فلا يوجد متحف أو مؤسسة تحتفي بأعمال ناجي في فلسطين والوطن العربي حتى اليوم، ولا تدرس أعماله أي مساقٍ جامعي فلسطيني أو عربي.

بعد 33 عاماً على استشهاد ناجي العلي، يقف حنظلة في آخر المشهد، وحيداً كما بدأ، رغم كثرة المزيّفين حوله، ولسان حاله يقول: "ما زالوا في الخلف يا ناجي، ما زالوا في الخلف".

المساهمون