لم يتبق على وجود أوباما في البيت الأبيض سوى بضعة أشهر، عندما تلقّى المكالمة التي حملت إليه نبأ هجوم إرهابي على ملهى ليلي في مدينة أورلاندو، هو الأعنف من نوعه من حيث عدد الضحايا منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، (أكثر من 100 قتيل وجريح). وعلى الرغم من أن العدد لم يكن قد اتضح، وقت الاتصال، أشارت المعطيات إلى أن ضحايا المذبحة الجماعية كبير. لم ينم الرئيس بعد المكالمة بل عمد إلى استدعاء فريق الأمن القومي في إدارته إلى البيت الأبيض، بمن فيهم مدير مكتب التحقيقات الفدرالية (إف بي أي)، حسبما أوضح أوباما في بيان للأمة، ألقاه منتصف نهار السبت.
ولم يكن الهجوم الذي استهدف ملهى ليلياً يرتاده المثليون في مدينة أورلاندو السياحية بولاية فلوريدا خاطفاً أو سريعاً كسابقاته. كما لم يكن حادث إطلاق نار عادياً ولا تفجيرا بحزام ناسف، بل كان معركة بالنيران امتدت على مدى ثلاث ساعات، من الثانية حتى الخامسة من صباح السبت ـ الأحد، قبل أن يتسنّ لعناصر الشرطة ورجال الـ"إف بي أي" السيطرة على الموقف. ولم يتم إبلاغ البيت الأبيض بالهجوم إلا بعدما احتجز المهاجم ثلاثين رهينة داخل أحد الحمامات التابعة للملهى الليلي.
عندما تمكّن رجال الشرطة وعناصر الـ"إف بي أي" من قتل المهاجم والتعرف إلى هويته على الفور في مسرح الجريمة، كان مجرد الإعلان عن اسمه "عمر" كافياً لإيقاظ الولايات الخمسين من سباتها، لاستعادة ذكريات هجمات سبتمبر المشؤومة. لكن السلطات تعمّدت، على ما يبدو، إبلاغ الأميركيين، تدريجياً، ببعض تفاصيل الهجوم بما يجنّبهم الصدمة.
طبقاً لرواية الشرطة، فإن حارساً واحداً كان يتولى حماية الملهى الليلي، وكان هذا الحارس أول من اشتبك مع المهاجم بالرصاص. لكن الأخير، بحسب ما أكدته المعطيات، كان مدرباً وماهراً في إطلاق النار وتصويب سلاحه الرشاش بدقة. وعلى الأرجح، أنه اكتسب هذه المهارة من خلال تدريب تلقاه في عمله حارساً ضمن إحدى شركات الحراسة، ويعرف تماماً طريقة تعامل الحراس مع حالات كهذه. وربما كان يتوقع الاستجابة المتأخرة من جانب الشرطة للرد على هجمات كهذه. وعلى الرغم من عدم وجود معلومات عن سفريات خارجية قام بها المهاجم، أشارت بعض التكهنات غير المؤكدة إلى احتمال أن يكون قد تلقى تدريباً خاصاً على أيدي مدربي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سورية والعراق.
ويبدو أن المهاجم الشاب (29 عاماً)، قوي البنية ويتمتع بلياقة بدنية وجسم رياضي، إذ أعدّ نفسه جيداً لارتكاب الهجوم، وحمل معه في تلك الليلة ثلاث قطع من الأسلحة الرشاشة، استخدم اثنتان منها، فيما عثرت الشرطة على القطعة الثالثة في السيارة التي استأجرها للوصول إلى مكان الهجوم من مقر إقامته الذي يبعد أكثر من 160 كيلومتراً عن أورلاندو.
ومن الواضح، وفقاً لمراقبين، أنه اختار هدف الهجوم بعناية، مستفيداً من خبرته كحارس للمباني، إذ كان يعلم أن المنطقة ستكون خالية من السلاح. فبحسب قانون ولاية فلوريدا، لا يُسمح حتى للحاصلين على رخص حمل السلاح بإدخالها إلى الأماكن المخصصة لشرب الكحول. وبيّنت تصرفات المهاجم أنه كان يتمتع بثقة إلى درجة أنه اتصل برقم الطوارئ المعروف في جميع أنحاء الولايات المتحدة (911)، للإبلاغ عن عزمه تنفيذ الجريمة، وقيل أيضاً للإعلان عن ارتباطه بالتنظيم وولائه له.
وعلى الرغم من الأقاويل عن اشتباكه مع الحارس الوحيد للملهى الليلي بالرصاص منذ لحظة اقتحامه للنادي، تمكّن الرجل، في اللحظات الأولى، من قتل 39 شخصاً، في حين توفي البقية عقب إسعافهم إلى المستشفى. وكشفت الشرطة عن أن بعض عناصرها انضموا إلى حارس الملهى الليلي لملاحقة المهاجم، لكن، بحسب الرواية الرسمية، احتمى الأخير بحمام كبير داخل الملهى. وكان الحمام، على ما يبدو، قد ازدحم بعدد كبير من الفارّين، فما كان من المهاجم إلا أن احتجزهم رهائن داخله. وبعد وصول تعزيزات من سيارات الشرطة وخبراء المتفجرات، فضلاً عن قوات أمنية خاصة جرى استدعاؤها، قرّر هؤلاء تفجير جدار الجزء الخلفي من المبنى الذي يقع فيه الملهى، لإحداث فوهات في الجدار، ليتسنّى لهم مباغتة المهاجم وقتله، لكن لم يتم ذلك إلا بعد الخامسة صباحاً.
ومن المفارقات، أن مكتب التحقيقات الفيدرالية سبق أن استجوب المهاجم بين 2013 و2014 للاشتباه في علاقته بالتطرف الإسلامي من دون أن توجه له أي اتهامات. وعلى إثر ذلك، تم إدراج اسمه على قائمة المراقبة للأشخاص المشتبه في تعاطفهم مع "داعش". وكان المكتب يدرك كل شيء عنه تقريباً، بأن اسمه الكامل عمر صديقي مير متين، وأنه مواطن أميركي بحكم ولادته بولاية نيويورك في نوفمبر/تشرين الثاني 1986، أما موطنه الأصلي فهو أفغانستان، ويقيم في مقاطعة سان لوسي بولاية فلوريدا منذ حوالي عشر سنوات.
وتحدث المحققون مع بعض أفراد عائلته الذين قالوا إن مشاعره معادية للمثليين جنسياً، إذ صرّح لوالده عن غضبه بعد رؤيته رجلَين يقبّلان بعضهما في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، وفقاً لما حصل عليه المحققون من معلومات مصدرها أقاربه. ويُقال إنّ والده مذيع تلفزيوني يبدي اهتماماً بالسياسة، ويقدّم نفسه، أحياناً، كمرشح لرئاسة أفغانستان.
ونقلت قنوات أميركية عن شهود عيان من الناجين أن الجثث كانت تتساقط على الأرض بسرعة مذهلة، وأن مطلق النار كان لديه وقتاً كافياً لاستبدال خزائن الذخيرة الفارغة بأخرى مملوءة.
ووصفت إدارة أوباما الهجوم بأنّه عمل إرهابي، لكن الرئيس أوباما تفادى إضافة كلمة "إسلامي" إلى "إرهابي"، واستعاض عن ذلك بالحديث عن جرائم الكراهية ومساوئ إتاحة حمل السلاح وبيعه. كما أعرب الرئيس الأميركي عن تعاطفه مع المثليين الجنسيين أو المتحولين جنسياً، وترحّم على القتلى. واعتبر حاكم فلوريدا ريك سكوت، الهجوم بأنه "مقزّز"، ويثير غضب كل أميركي. كما أعلن حالة الطوارئ في المدينة بطلب من رئيس بلديتها.
وكان للهجوم تداعيات لا تزال في بدايتها على السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، إذ وجد الجمهوريون في الحادثة فرصة سانحة للقول إنهم الأقوى والأكثر جدارة من الديمقراطيين، عندما يتعلق الأمر بحماية أرواح الأميركيين. كما حاول المرشح الجمهوري المثير للجدل دونالد ترامب توظيف الحادث لمصلحة حملته الانتخابية، قائلاً إنه "الأقدر على الاستجابة لمثل هذه التهديدات الإرهابية".