باتت محافظة مأرب، الواقعة شرقي اليمن، محط اهتمام الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنية بمتابعة الملف اليمني. وللشهر السادس على التوالي، لا تزال المحافظة الغنية بالنفط والغاز مسرحاً رئيسياً لأكبر العمليات العسكرية بين قوات الحكومة، وجماعة الحوثيين، التي تسعى لضمّها إلى مناطق سيطرتها التي تفتقر إلى أي مصدر للثروات الطبيعية.
وعلى الرغم من الكلفة البشرية الكبيرة للمواجهات، إلا أن جماعة الحوثيين استطاعت تحقيق
اختراقات جوهرية في مأرب، والتي تعد أيضاً معقلاً رئيسياً للقوات الحكومية الموالية للشرعية، وذلك باحتضانها لمقرات وزارة الدفاع ورئاسة هيئة أركان الجيش. وتضم المحافظة أيضاً عدداً من المناطق العسكرية والألوية الضاربة، التي شكلّت نواة الجيش الوطني بعد اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء والاستحواذ على القوات المسلحة.
استفاد الحوثيون من هدنة أممية في الحديدة، وركود مُبهم في جبهات تعز وحجة والمناطق الحدودية مع السعودية
وبعد سيطرتها على مديرية نهم الاستراتيجية، شرقي صنعاء وغالبية مناطق محافظة الجوف ومناطق جديدة في البيضاء، تفرغت جماعة الحوثيين بشكلٍ شبه كامل لتنفيذ هجوم مستميت على مأرب، مستفيدةً من هدنة أممية في مدينة الحديدة، وركود مُبهم في جبهات تعز وحجة والمناطق الحدودية التي تربط معاقلها الرئيسية في محافظة صعدة بالشريط الجنوبي للسعودية. وخلال الأسبوعين الماضيين، استطاعت الجماعة تحقيق مكاسب استراتيجية وقضم مناطق جديدة في الجهة الجنوبية لمحافظة مأرب، وخصوصاً تلك التي كانت محمية طيلة سنوات الحرب الماضية بعددٍ من المديريات المحايدة في البيضاء. ومن إجمالي 14 مديرية ممتدة في مأرب، أصبحت خمس مديريات تحت سيطرة الحوثيين شبه الكاملة، فيما يشهد عدد من المديريات الأخرى معارك كرّ وفر بينهم وبين القوات الحكومية ورجال القبائل.
ووفقاً لمصادر عسكرية تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن ثلاث جبهات حرب رئيسية مفتوحة في مأرب في الوقت الراهن، هي جبهة مراد وصرواح والجدعان، وجميعها تنسب لمطارح القبائل المأربية الأبرز، والتي قد تمتد رقعتها الجغرافية في بعض المناطق على أكثر من مديرية.
في جبهة قبائل الجدعان، توجد مديريتا مجزر ومدغل. وبحسب مصادر عسكرية متطابقة، فإن المعارك هناك تراوح بين كرّ وفر منذ أشهر، دون أن يحسمها طرف محدد. أما جبهة صرواح التي يسيطر الحوثيون فيها على مركز المديرية منذ العام 2015، فلا تزال الأمور ثابتة هناك منذ سنوات، على الرغم من أنها المنطقة الأقرب للجماعة إلى قلب مدينة مأرب، عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم ذاته. لكن التطور الأحدث خلال الأسابيع الماضية، بالنسبة للحوثيين، كان في جبهة مراد الجنوبية، حيث سيطرت الجماعة على مديريتي ماهلية ورحبة، وباتت تهدد بشكل أكبر مديرية الجوبة الاستراتيجية، مستفيدة من شبكة علاقات قبلية تمتلكها في أوساط تلك المناطق، وشكّلت نقطة التحول في قلب ميزان القوة لصالحها.
وقالت مصادر قبلية موالية للشرعية، في أحاديث منفصلة لـ"العربي الجديد"، إن جماعة الحوثيين لم تحسم تلك الجبهة بالتكتيك العسكري المحض، لكنها استغلت بذكاء صراع الأجنحة داخل قبيلة مراد، وعملت على تغذية العداء ضد الحكومة الشرعية، وخصوصاً حزب التجمع اليمني للإصلاح، المتهم بالاستحواذ على مقدرات مؤسسة الجيش بمأرب. كما أوهمت الجماعة تلك القبائل بأنها ستمنحهم السلام مقابل اجتياح سلس لمناطقهم. وفي مسعى منها للملمة صفوفها من اختراقات حوثية أكبر، وقعت قبيلة بني سيف، وهي واحدة من أكبر قبائل مراد في جنوب مأرب، على معاهدة، أهدرت فيها دم كل مقاتل من أفرادها يفر من موقعه الذي كُلّف بحمايته، وكذلك من يثبت أنه موالٍ للحوثيين أو عميل لهم، أو من يبث الشائعات والأراجيف (الأضاليل) لخدمة العدو.
وعلى الرغم من الالتفاف القبلي، ودفع قوات الجيش الوطني بعدد من الكتائب للدفاع عن مديرية الجوبة، إلا أن جماعة الحوثيين بدأت بتحقيق اختراقات جديدة فيها. ومنذ مساء الإثنين الماضي، كانت صواريخ مقاتلات التحالف السعودي - الإماراتي تسقط على أراضيها للمرة الأولى خلال الحرب، مستهدفة أرتالاً حوثية تمكنت من التسلل. وأقر ضابط في الجيش الوطني، طلب عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، بـ"صعوبة الوضع"، قائلاً إن حجم التعزيزات البشرية الحوثية من جنوب مأرب مهولة للغاية، إلا أنه أكد في المقابل، أن سقوط الجوبة، إذا تمّ بشكل سريع، لن يغير في ميزان القوة بشكل كبير، وسيكون على الحوثيين أن يقطعوا مسافة نحو 70 كيلومتراً من السلاسل الجبلية حتى يصلوا إلى قلب مدينة مأرب.
وفي ظلّ اتهاماتٍ للشرعية بخذلان قبائل مراد، والاكتفاء بحضور رمزي لوحدات من القوات الحكومية، يبدو أن الجيش اليمني كُلف بالمهمة الرئيسية المتمثلة بتأمين منابع النفط والغاز، ودحر الحوثيين من الجبهة الصحراوية التي اخترقها مسلحو الجماعة بعد سيطرتهم على الجوف. ووفقاً لمصادر "العربي الجديد"، فقد كان الحوثيون قد حققوا الاختراق الأخطر في جبهة مأرب، بالاقتراب من حقول النفط بمنطقتي صافر وريدان، بعد سيطرتهم على منطقة العلم، التي تبعد عن مواقع الثروات نحو 25 كيلومتراً فقط.
استغلت جماعة الحوثيين صراع الأجنحة داخل قبيلة مراد، وعملت على تغذية العداء ضد الحكومة الشرعية
ودفع الجيش الوطني مسنوداً بالمقاومة الشعبية، بقوة عسكرية ضاربة، استطاعت في وقت قياسي، إعادة الحوثيين إلى تخوم مناطق الجوف، بعد تحرير مناطق الصبايغ والشهلة، وصولاً إلى سلسلة جبال دحيظة، شرق منطقة بير المزاريق. وبعد تحرير تلك المناطق، تمكن الجيش اليمني من تأمين منابع النفط في مأرب بشكل تام، وكذلك الطريق الدولي الواصل بحضرموت، والذي إذا وقع في أيدي الحوثيين، سيجعلهم يهددون مدينة المكلا، ومحافظة شبوة، جنوبي البلاد.
وعلى الرغم من استعادة القوات الحكومية لزمام المبادرة في بعض جبهات الجوف، إلا أن المعركة، وفقاً لمراقبين، لا تزال محفوفة بالمخاطر، على الرغم من كثافة الضربات الجوية للتحالف السعودي - الإماراتي الذي يشن نحو 30 غارة يومياً على مناطق مأرب، وذلك جراء استبسال الحوثيين الكبير والدفع بآلاف المقاتلين لإسقاط المحافظة النفطية.
وبالنسبة للمحلل السياسي المتحدر من مأرب، محمد الشبيري، فإنه من الصعوبة التكهن بمستقبل المعركة ككل، إلا أنه أكد في المقابل، صعوبة المهمة الحوثية باجتياح مأرب أو السيطرة عليها. ورأى الشبيري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الحوثيين في أسوأ حالاتهم اليوم، وليس باستطاعتهم السيطرة على مأرب في وضع كهذا، بعدما فشلوا بهذه المهمة وهم في ذروة قوتهم في العام 2015"، في إشارة إلى فترة التحالف حينذاك مع قوات الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.
وفيما أقر بكلفة المعركة الحالية على مأرب ورجال قبائلها الذين سقط منهم المئات خلال الأسابيع الماضية، كون المحافظة تقاتل منفردة من بين كافة الجبهات اليمنية، اعتبر الشبيري أن هناك "سوء إدارة لملف الحرب من قبل الحكومة الشرعية". وفي هذا الإطار، أشار المحلل السياسي إلى أن "الاتهامات للشرعية والتحالف بالتخاذل، تستند إلى حقائق توقيف الجبهات الأخرى، فهناك توقف مجهول الأسباب، خصوصاً في الساحل الغربي وتعز وحجة، وكان باستطاعة الشرعية أن تخفف الضغط على مأرب بتحريك تلك الجبهات". وبرأيه، فإنه "حتى اللحظة، لا يزال الوضع قابلاً للتصحيح، إذا كانت هناك نوايا جادة".
ويبدو أن الأيام المقبلة ستكون دامية بشكل أكبر في جبهات مأرب، فالشرعية التي تراهن على رجال القبائل والطيران السعودي بدرجة رئيسية، لن يكون بمقدورها إيقاف زحف الحوثيين الذي يعتمد بالمقام الأول على كثافة العنصر البشري بالهجوم، والخلايا النائمة بتسهيل الاجتياحات، فضلاً عن أسلحة كفيلة بإرباك جبهات الخصوم، على رأسها الطائرات المفخخة من دون طيار وقذائف الهاون والمدفعية.