احتفالٌ سينمائي بصدور "يا عمري" (2017) للسينمائيّ الوثائقي هادي زكّاك (1974) في نسخة "دي. في. دي"، دافعٌ إلى استعادة عملٍ ذاتي باهر بحساسيته الفنية والجمالية والإنسانية. الاحتفال معطوفٌ على إصدار نسخ "دي. في. دي" لفيلمين آخرين: "مارسيدس" (2011) و"كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة" (2016)، اللذان يُجمعان مع "يا عمري" في علبة واحدة. التشابه بين "يا عمري" و"كمال جنبلاط" كامنٌ في ارتكازهما على شخصيتين حقيقيتين، وعلى تقديم مقتطفات من سيرة حياة وتاريخ بلد. هذا الأخير نواة أساسية لـ"مارسيدس"، عبر علاقة تاريخية بين لبنانيين كثيرين وسيارة "مرسيدس" منذ خمسينيات القرن الـ20 (التلاعب واضح في عنوان الفيلم، الذي يوحي بنوعٍ من "عبادة" لبنانية لهذه السيارة، باختيار "مار" بدلاً من "مر" في بداية اسم السيارة).
القول إنّ "يا عمري" عمل ذاتي لن ينفي تلك الصفة عن أفلام أخرى لزكّاك، رغم تفاوت حجم "الذاتي" وتأثيراته المتبادلة بين الأفلام ومخرجها. فالذاتي طاغٍ في "يا عمري"، لكونه فيلمًا عن هنرييات، جدّة المخرج، المتوفية عن 104 أعوام. بينما الذاتي في "مارسيدس" مثلاً، فناتجٌ من رؤية السينمائي الوثائقي للعلاقة التاريخية والغريبة والشائكة والجميلة (في آن واحد) بين اللبنانيين وهذا النوع من السيارات، في تاريخهم وتاريخ بلدهم. أما الذاتي في سيرة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، الذي اغتيل في 16 مارس/آذار 1977 على بُعد خطوات قليلة من حاجز عسكري ـ أمني تابع للنظام السوري بالقرب من المختارة، فأخفّ وطأة سينمائيًا، لارتكاز "الشاهد والشهادة" على شخصية حاضرة في التاريخ اللبناني والوجدان الجماعي والفردي، بتفاوتٍ واضح في مدى جاذبيتها.
كمٌّ هائلٌ من الانفعال البديع يتغلغل في مسام "يا عمري" وروحه وبنائه السرديّ. مونولوغ فرديّ لسيّدة متخطّية الـ100 عام من عمرها بقليل، تقول أشياء عنها، وتستعيد لحظات من سيرتها، وتخاطب حفيدها القادم إليها محمّلاً بشغف سينمائي ليبوح، عبر الكاميرا (تصوير موريال أبو الروس)، بإحساس تجاهها مليء بحبّ يتجلّى في تواصل شفّاف وهادئ وآسر لاشتغال بصري يتوق إلى توثيق بعض الذاكرة الفردية. ورغم أن الجدة غير راوية الكثير من أشجان وأحلامٍ مُتحقِّقة أو موؤودة، إلاّ أن "يا عمري" يتفنَّن في ابتكار لحظات سينمائية تختزل عمرًا، وتعكس نضارة صورة في توثيق حكاية.
هذا مترافق مع بحثٍ مبسّط في مفاهيم أخرى، كالعلاقات والحب والزواج والعائلة والعمر والانفعال والهجرة والمَوْطِن الأصليّ. فهنرييات ـ التي يضعها هادي زكّاك أمام كاميراه في مراحل زمنية مختلفة (وإنْ تطغى عليها مراحل العمر المتقدّم) ـ تُشكِّل جوهر النصّ ومناخه، وتفتح نوافذ على ذاكرةٍ وخيباتٍ وأحلامٍ معلّقة، وتأخذ حفيدها المخرج إلى رحلة في الجغرافيا والذات والذكريات، مع أنها تفقد أجزاء كثيرة من ماضيها وراهنها، بسبب وطأة السنين عليها، وعطب التذكّر، وألم الانفصال عن أزمنة تنسلّ بين يديها.
لكن العناوين لن تكشف مضامينها بشكل مباشر، ولن تتحوّل إلى نصٍّ أساسيّ، لانشغال "يا عمري" بالحكاية الأصلية: راهن هنرييات وبعض ماضيها. وهذا إما بالتواطؤ معها (أي عندما تنفتح ذاكرتها على معروفٍ لديها، وإنْ يكن قليلاً)، وإما برغبةِ الكاميرا في الانجراف إلى متاهة العمر وكواليسه المنغلقة على ذاتها. والتواطؤ جميلٌ، غالباً، رغم قسوة الزمن المنعكسة على الجسد، والنظرة الشاردة، والتوهان خارج كلّ راهنٍ.
وإذْ يحتل الكلام المساحة الأكبر والأعمق في "يا عمري"، وهو كلام تُهيمن هنرييات عليه لكونها الشخصية الوحيدة للوثائقي، فإن "مارسيدس" يعتمد لغة الصورة البحتة ـ الفوتوغرافية والتسجيلية، والتلفزيونية غالبًا ـ في تقديمه تفاصيل حيّة من العلاقة القائمة بين اللبناني وهذه السيارة الألمانية، منذ خمسينيات القرن الـ20 لغاية راهنٍ لبنانيّ غير متبدّل كثيرًا في العلاقة نفسها. لغة الصورة تتحوّل ـ مع ثنائية التصوير السينمائي (أبو الروس) والتوليف (الياس شاهين وفارتان أفاكيان) ـ إلى تكامل سرديّ بين مضمون الحكاية والشكل البصري.
أما "كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة"، فيجمع بين كثافة الصُوَر ـ الفوتوغرافية والأرشيفية المتنوّعة ـ ومتخيّل روائي مخفَّف، يلتقط وقائع، ويُعيد صوغ حقائق، لتثبيت مفاصل سيرة مشبعة بالفكر والسياسة والزعامة اللبنانية التقليدية، ولتمتين محطات في تلك السيرة. والجمع يمنح الوثائقي حيوية جمالية في إعادة رسم صورة بلدٍ يغرق سريعًا في حربٍ أهلية دموية، سيكون اغتيال كمال جنبلاط أحد الأسباب الإضافية لاستعار نارها وتدميرها ووحشيتها. وإذْ يُغيِّب "الشاهد والشهادة" مواقف مثيرة للجدل وللدهشة لكون جنبلاط مفكّرًا منفتحًا ومختلفًا عن زعماء سياسيين لبنانيين آخرين، يُطلقها الزعيم اللبناني في أزمنة سلم مدني ملتبس (بصفته وزيرًا للداخلية، يمنع جنبلاط المغنّي الفرنسي جوني هاليداي من إحياء 3 حفلات في "كازينو لبنان" بين 11 و13 يناير/كانون الثاني 1963، تزامنًا مع ضجّة تُحدثها رقصة "التويست" إلى درجة منعها في صالات السينما والمرابع الليلية)؛ فإن الوثائقي يبقى أحد أهمّ الأعمال الموثِّقة، سينمائيًا، لسيرة حافلة بمواقف وحالات وتأثيرات.