شكّلت الانتفاضة الجزائرية في أكتوبر/تشرين الأول 1988، مفاجأة للكثيرين من أطراف النظام السياسي الذي كان يحكم البلاد، الغارقة حينها في أزمة اقتصادية خانقة وصراع سياسي. ولكن بعد مرور 27 عاماً على الانتفاضة التي عمّت أغلب مدن الجزائر، خصوصاً العاصمة، لا تبدو المطالب السياسية والاجتماعية التي رُفعت حينها قد تحققت بعد.
سبقت انتفاضة أكتوبر أنباء عن تظاهرات ستشهدها البلاد، وقبلها كان عمال في المدينة العمالية في بلدة رويبة قد أعلنوا عن إضراب احتجاجاً على أوضاعهم الاجتماعية والمهنية، لكن المثير أن الرئيس الجزائري في حينها، الشاذلي بن جديد، استبق هذه الأحداث بأسبوعين بخطاب اعتُبر في نظر الكثيرين خطاب مكاشفة ومصارحة عن الأوضاع الاجتماعية، حتى إن بعضهم عدّ الخطاب نوعاً من تحريض الشعب على المطالبة بالتغيير. وبدا كأن بن جديد يطالب الشعب بالخروج إلى الشارع، وهو ما حصل فعلاً بعد نحو أسبوعين من خطاب 18 سبتمبر/أيلول 1988.
قبيل هذه الفترة كانت الجزائر قد دخلت مرحلة خطرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي بسبب أزمة انهيار أسعار النفط عام 1986، وهي الأزمة التي وضعت البلاد بين فكي كماشة، إذ كانت الجزائر تعتمد بشكل كلي على عائدات النفط في توريد المواد الغذائية والأدوية، وكانت البنية التحتية الاقتصادية التي أنجزها الرئيس الراحل هواري بومدين، قد جرى إهمالها وإلغاء مسار التصنيع الذي كانت البلاد قد دخلت فيه. كما أن موجة النزوح السكاني من الريف إلى المدن، أدّت إلى تدنٍ شديد للإنتاج الزراعي بسبب هجر الفلاحين أراضيهم. ومع شح الموارد المالية بدأت الأوضاع الاجتماعية تسوء في البلاد، مع حالة قاسية من ندرة المواد الغذائية، دفعت الجزائريين إلى الخروج مبكراً للحصول على الخبز، والوقوف في طوابير طويلة للحصول على المواد الغذائية اللازمة، ومع كل هذه الأوضاع لم تكن الحكومة وبن جديد يملكان أية حلول اقتصادية وسياسية لمواجهة هذه الأزمة وتداعياتها.
لكن الأزمة لم تتوقف تداعياتها عند الشق الاجتماعي والاقتصادي، فالمطالب السياسية والديمقراطية كانت قد بدأت تطل برأسها منذ عام 1980، بعد انتفاضة الأمازيغ للمطالبة بالاعتراف بالهوية الأمازيغية، والاضطرابات في مدينة قسنطينة عام 1986 وفي سطيف شرقي الجزائر، وغرداية جنوبي البلاد. كما أن أحزاب اليسار كانت تنشط في السر، إضافة إلى قوى التيار الإسلامي التي تشكّلت ككتلة موحّدة عام 1982 في ما يعرف بأحداث الجامعة المركزية التي اعتُقل خلالها عدد من الكوادر الإسلامية بسبب مطالباتها السياسية.
وبدا أن النشاط السياسي الصامت وتداعيات الأزمة الاقتصادية وبروز بعض الإضرابات العمالية، إضافة إلى الصراع الحاد بين الأطراف السياسية داخل السلطة، بين دعاة الإصلاح الاقتصادي والسياسي وبين الرافضين له، كلها عوامل عجّلت بانتفاضة أكتوبر.
وبشكل سريع، عمّت التظاهرات شوارع المدن الجزائرية الكبرى، ورفع المتظاهرون شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة. وكان لافتاً أن المتظاهرين هاجموا مقرات "جبهة التحرير الوطني" الحاكمة، وكل المؤسسات التي ترمز إلى السلطة إضافة إلى مقرات الشرطة، وهو تعبير عن الاحتقان من الأداء السياسي للنظام الحاكم. وجربت السلطات حينها الحلول الأمنية لقمع المتظاهرين، واعتقلت المئات منهم، كذلك اعتقلت عدداً من الناشطين السياسيين، وقُتل خلال تلك الأحداث 120 شخصاً بحسب الأرقام الرسمية، لكن رئيس جمعية "ضحايا أكتوبر 1988" محند أزواو، يؤكد أن أكثر من 500 شخص سقطوا خلال هذه الأحداث.
اقرأ أيضاً: تحذيرات من "انفجار اجتماعي" في الجزائر
ولم تكن الأجهزة الأمنية، خصوصاً الجيش، جاهزة للتعامل مع هذا النوع من الاحتجاجات التي كانت تعمّ البلاد للمرة الأولى منذ الاستقلال، وكان واضحاً أن السلطة تبحث عن مخرج، وجدته في طرح مشروع إصلاحات سياسية عميقة، تُنهي نظام الحزب الواحد والفكرة الواحدة، وتفتح الباب أمام حق إنشاء الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة والصحافة الحرة. وأطلّ بن جديد في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1988، في خطاب دعا خلاله المواطنين إلى التعقّل، وتعهّد بتنفيذ إصلاحات سياسية عميقة، تضمّنها دستور 23 فبراير/كانون الثاني 1989، وهو ما سمح بإنشاء أكثر من 60 حزباً سياسياً حينها. وأتاحت هذه الظروف عودة عدد من القيادات السياسية التاريخية التي كانت منفية في الخارج كالرئيس السابق أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد.
إلا أن الكثيرين ممن عايشوا هذه الأحداث وشاركوا فيها لا يعتبرون اليوم أن المطالب التي رفعها الشباب الجزائريون حينها قد تحققت. ولا يرى أزواو حمو، والذي فقد ذراعه بعد إصابته بتسع رصاصات في تلك الأحداث، أن شيئاً من المطالب التي رفعها شباب أكتوبر تحقق. فبالنسبة إليه كما لكثيرين، نجحت السلطة في الالتفاف على هذه المطالب، وأنجزت تجربة ديمقراطية مجتزأة. ويقول "إن أهداف انتفاضة أكتوبر 1988 التي ضحّى من أجلها الشباب، لم تتحقق، فالوضع المعيشي يزداد تدهوراً على الرغم من كل ما تتمتع به البلاد من ثروات وإمكانات"، مضيفاً أن "التجربة الديمقراطية لم تنجح في الجزائر، إذ لم يُرد لها النجاح لأنها لم تقم على قواعد صحيحة، والنظام الذي كان يحكم قبل أكتوبر 1988 هو نفسه الذي بقي يحكم ويدير الأمور بأسماء مختلفة، وبمجموعة أحزاب عوضاً عن حكم الحزب الواحد".
لا يختلف موقف الصحافي أحسن خلاص في توصيف إسقاط أهداف الربيع الجزائري عن توصيف حمو أزواو. ويعتقد خلاص الذي عايش أحداث أكتوبر، وهو طالب في الجامعة، أن "الديمقراطية في الجزائر ماتت ميتة طبيعية ولم تغتل لأنها ولدت ولادة غير طبيعية بعد أحداث أكتوبر 1988"، مضيفاً: "لم يكن ما سميناه ديمقراطية إلا رد فعل لجناح في السلطة على محاولات زحزحته من الجناح الآخر، وكانت محاولة لتمييع الصراع واستدعاء الشعب ليكون طرفاً في معادلة استعصى حلها بين أروقة السلطة"، معتبراً أن "ذلك الانفتاح سرعان ما تحوّل إلى مأزق بسبب بروز العصبيات التي أرادت كل واحدة منها أن تستحوذ على قطعة من الجزائر، من أمازيغية وعروبة وإسلام وإرث تاريخي".
ويشير إلى أنه "أعقب هذا المأزق تطبيع مع الممارسات الأحادية في ثوب تعددي وتداولي وحريات مزيفة، فمر على الحكم ما بين الأعوام 1990 و2000 خمسة رؤساء بمعدل رئيس لكل عامين، واستهلكنا العديد من رؤساء الوزراء، لكن التداول على السلطة بمعناه الحقيقي لم يحصل".
في أكتوبر 1988، كان جمال بن عبد السيلام يدرس في جامعة تيوزي وزو شرقي الجزائر عندما اندلعت الأحداث، ويرى اليوم أن أبرز أسباب فشل التجربة الديمقراطية التي انخرطت فيها الجزائر عقب أحداث اكتوبر، كانت "غياب عمل إصلاحي فكري وثقافي وسياسي واجتماعي عميق وشامل، وهي شروط لا يمكن من دونها أن تتوفر عناصر وعوامل الإصلاح السياسي الحقيقي".
من جهته، يعتقد الناشط السياسي سمير لعرابي أن انتفاضة أكتوبر كانت إنجازاً كبيراً بالنظر إلى ظروف الحكم التي كانت تشهدها الجزائر، لكن المطالبات السياسية والتجربة الديمقراطية التي دخلتها الجزائر عقب تلك الانتفاضة، سقطت بفعل استمرار شخصيات الحكم نفسها في إدارة شؤون البلاد. ويشير إلى أن الرئيس الشاذلي بن جديد ومجموعته، والتي أوصلت البلاد إلى الأزمة لم ترحل بل تكفلت هي نفسها بإدارة المرحلة اللاحقة.
اقرأ أيضاً: لاءات بوتفليقة: عودة جبهة الإنقاذ مرفوضة والتنازلات ممنوعة