B: Bonn - Weltbürger مولود بون.. مواطن العالم
بون الألمانية مسقط رأس لودفيغ فان بيتهوفن، مدينة تقع في مقاطعة ويستفاليا، شمالي نهر الراين. تعد من أقدم مدن المنطقة، حيث أنشئت عليها في الماضي مستعمرة رومانية. في القرن الثامن عشر، صارت ولاية تابعة للكنيسة الكاثوليكية لمدينة كولونيا، في كنف ما عُرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة.
تربّعت على عرشها أسرة دوقية جمعت السلطة الزمنية والحظوة الدينية، أنجبت أمير كولون ماكسيميليان فرانز، الذي عملت في بلاطه أسرة بيتهوفن، بداية من الجد عازفاً للأورغن، انتهاء بالحفيد لودفيغ الصغير، الذي لفت نبوغه الأمير، فما كان منه إلا وأن سمح له بالخروج والسفر إلى مدينة فيينا، بتنسيقٍ مع معلمه كريستيان نييفه وشبكة علاقاته الواسعة، لكي يدرس مع أيقونة العصر آنذاك، فولفغانغ أماديوس موتزارت، إلا أن أنباء لم ترد عن تمام اللقاء بين الموسيقيين، فالزيارة أتت مقتضبة، قطعها خبر مرض والدة بيتهوفن، الذي حتم عليه العودة إلى بون سريعاً.
بيد أن ماكسيميليان فرانز كان أكثر من مجرد أمير تربى بيتهوفن الصغير في كنفه. كان ماكسيميليان حاكماً مثقفاً متحرّراً ومخلصاً لأفكار عصر التنوير المرتكزة على الكونية والحرية، لكن في حدود العقلانية والإدراك العلمي للكون والوجود، الأمر الذي جعل من مدينة بون في ظل عرشه تتّقد شعلةً فكريةً وثقافيةً بروحية تحررية ونفس عَلماني، وإن لبرهة تاريخية ما لبث الاجتياح الفرنسي بجحافل جيوش نابليون أن أطفأ جذوتها. ظل ذاك الأثر التنويري مضيئاً في نفس بيتهوفن العشريني، الذي كان قد غرس فيه أستاذه كريستيان نييفه، منذ البداية، الميل إلى أدب عصر التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية. فما كان من عنفوان الشاب وحماسته الثقافية إلا وأن دفعاه نحو أولى محاولاته لتلحين قصيدة الشاعر الألماني فريدريك شيلر، "لحن الفرح"، التي تغنت بالكونية، مطلقة نداءً يدعو إلى الأخوة بين البشر على امتداد بسيط الأرض.
انطلاقة بيتهوفن الفنية والفكرية نحو اعتناق مزيد من مظاهر الكونية والمواطنية العالمية في منهجه الفني والسلوكي، أتت إثر هجرته النهائية إلى فيينا، بعد أن كبر واستقل عن عرش الدوقية وتسلّط والده عليه. استضافته الحاضرة الأوروبية كعازف بيانو منفرد، ثم كمؤلف مقيم على أرضها ومن أقطاب وسطها الفكري والفني البارزين. فيينا، وبعد نجاتها من حصار العثمانيين لأسوارها في عام 1683، ما لبثت أن حكمتها سلالة "الهابسبرغ"، التي أسهمت بشكل أساسي في جعل المدينة مركزاً اقتصادياً وثقافياً، ثقله فكر عصر التنوير والميل إلى تحرير الاقتصاد وتبني النهج العلماني.
ففي عهد الأرشيدوقة ماريا تيريزا منذ منتصف القرن الثامن عشر، أُطلق العنان للصناعات الناشئة، وخفضت الضرائب على البضائع وبنيت قرابة الـ 500 مدرسة. ازدهرت العمارة الكلاسيكية المستلهمة من الإمبريالية الرومانية. اجتذب ذلك الأدباء والفنانين، وعلى رأسهم الموسيقيون، بداية بموتزارت، مروراً بهايدن ووصولاً إلى بيتهوفن. الأرشيدوقة نفسها كانت شغوفة بلون الأوبرا، ولأجلها كتب موسيقيون عديد الأعمال الغنائية، أمثال غلوك ومسرحيته الغنائية الشهيرة أورفيوس ويوريديس. سار وريثها جوزف الثاني، أخو حاكم بون ماكسيميليان فرانز، على خطاها، متجهاً نحو مزيد من الانفتاح السياسي والاجتماعي، لجهة تقليص سلطة الحاكم الفرد وعلمنة المؤسسات الدينية. ألق فيينا إذن، ومركزيتها لأوروبا الصاعدة، صاغا بيتهوفن مؤلفاً يرى العالم مسرحاً لموسيقاه.
T: Tonkünstler المؤلف والملحن
معاصرة بيتهوفن تحولات تاريخية كبرى، انتقالاً من نعيم واستقرار "الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، إلى حروب نابليون والموجات الثورية الارتدادية التي أعقبت الثورة الفرنسية، كل تلك الأحداث جعلت من بيتهوفن المؤلف صلةَ وصلِ الماضي بالقادم من الأشكال الفنية والأساليب المحدثة في تأليف موسيقى باتت على أعتاب القرن التاسع عشر. وعليه، جمعت مؤلفات بيتهوفن، من خلال السيمفونيات وسوناتات البيانو، إضافة إلى سلسلة الرباعيات الوترية على ثلاث حقبات إبداعية، إرث الكلاسيكية بملامح الرومانسية الآتية.
الموسيقى بوصفها سرداً درامياً، يتباين في المحطات الشعورية والأحداث الموسيقية المتنوعة، أخذت تتبلور في أعمال بيتهوفن، أولاً، من حيث الطريقة المعقدة والمديدة في معالجته للجمل والأفكار الموسيقية، ومن خلال التسخين الحسّي باعتماد الانتقال الهارموني بين السلالم. فبينما استقرت البنية المقامية في ما مضى على سلمٍ واحد، شكّل بيئة العمل الصوتية، ما خلا مقاطع تكتب عرفاً بسلالم قريبة، وسّع بيتهوفن نطاق الانتقال المقامي وجامع الأضداد من خلال إقحام نغمات غير معهودة من قبل، ولا متوقعة من أحد، فتغير من شخصية السلم وأثره على الحدث الموسيقي. أسلوبٌ سيتلقفه اللاحقون من الرومانسيين، أمثال شوبرت، وفرانز ليست، وفاغنر.
من هنا، عمد بيتهوفن على "درمتة" الموسيقى، إذ جعلها قادرة على البناء الدرامي والسرد المجازي، وعلى تمثيل الأطراف المتناقضة، المتصارعة والمتباينة داخل النفس البشرية وخارجها، من خير وشر، جمال وقبح، فرح وترح، قوة واستكانة، رأفة وبأس. وسيلته إلى هذا، كما الانتقال بين المقامات، كانت النظر إلى الأشكال الإيقاعية، لا كمحضِ بنية تحتية وروافع للألحان، وإنما بوصفها مادة تعبيرية أولية بحد ذاتها. دفع بها إلى واجهة الكتابة الموسيقية، ناسجاً منها مقاطع أوركسترالية طويلة الأمد وممتدة، منها ما أصبح روائعَ خالدة، كالحركة الأولى من السيمفونية الخامسة، والثانية البطيئة لكل من السيمفونية الثالثة والسابعة.
إلى جانب ذلك، صكّ بيتهوفن أسلوب التوزيع للفرق الأوركسترالية لكلّ من أتى من بعده من المؤلفين، مروراً بالقرن التاسع عشر، وصولاً إلى القرن العشرين، وذلك بتخفيضه المنسوب المتوسط من الصوت نحو الآلات الأكثر عتمة وجهيراً، كـ الفيولا، وهي الكمان الأخفض صوتاً والأكبر قياساً، والتشيلّو والكنترباص. يصب هذا النزوع نحو إنزال منسوب الصوت جهةَ الأعتم، في زيادة القدرة الميلانكولية والطاقة في التعبير عن الوجع الإنساني، ولا سيما باستعمال الطبل الأوركسترالي "التِمباني" مرّات كمُعلنٍ عن اللحن الرئيسي، كما في كونشرتو الكمان والأوركسترا. من شأن كل ذلك، أن ميز البيئة الصوتية التي سكنتها مؤلفات بيتهوفن، عن تلك التي سبقته لمؤلفين من أمثال موتزارت، وهايدن، وباخ.
على صعيد البناء، واكب بيتهوفن كِبر واستطالة المؤلف الموسيقي، وتعدد الحركات المتكونة له، وعمد على إحداث طرق وأساليب تمكن من الربط، وتحافظ على وحدة واتساق العمل. فطور ما بات يعرف بـ "الموضوع الجنيني"؛ وهو لحن أو بضع نغمات، عابرة للحركات، ستتردد على مدار العمل، تربط أفكاره، وتوحد موضوعاته، وتخلق علامات، تشبك الأذن بالمزاج العام، وتحقنها بعامل التأهب.
H: Humanist الإنساني
لم تتجلّ إنسانية بيتهوفن في علاقاته العامة، سواءً بالأقرباء أم بالأصدقاء، بل هو كان أصلاً وفي الأساس شخصاً صعب المراس. من هنا برزت إنسانية بيتهوفن في سياقٍ أعم وأشمل، تعدّى الألفة وحسن الجوار في المبنى والحي، نحو تبنّي قضايا البشرية والانحياز إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة، التي بشرت بها الثورة الفرنسية، والتي نشأ بيتهوفن مؤمناً بها، متشرّباً مبادئها، سواءً في بون، أو إثر انتقاله إلى فيينا. ولعل أكثر ما وثّق إنسانيةَ بيتهوفن ذات البعد الكوني، هو علاقته المتقلّبة والمتحولة مع نجم عصره نابليون بونابارت.
عندما أنهى بيتهوفن كتابة مخطوط سيمفونيته الثالثة عام 1802، وبحسب رواية أحد تلامذته المقربين؛ فرديناند ريس، كان قد قرر إهداءها إلى نابليون، الذي ما زال يشغل حينها منصب "قنصل أول"، كان قد تبوأه إثر انقلاب أبيض أطاح الإدارة التي شُكّلت في أعقاب الثورة الفرنسية منذ سنة 1779. إلا أن بيتهوفن سرعان ما استشاط غضباً، لمّا علم من تلميذه فرديناند، أن نابليون، وفي أيار من عام 1804، انقلب على المجلس القنصلي، ونصّب نفسه إمبراطورا على فرنسا.
يذكر فرديناند، أن بيتهوفن حين علم، صرخ قائلاً: "صاحب تلك النفس الفانية، شأنه شأن كل الناس، ها هو ذا يدوس على كل حقوقهم، سعياً إلى إرضاء طموحه الشخصي، أيظن نفسه أنها فوق البشر، فيصير طاغية؟" ليتناول قلمه من بعد ذلك، وبسخط، يشخط اسم نابليون من على مخطوط السيمفونية، ويبقي العنوان "السيمفونية البطولية".
بغض النظر عن مدى صدقية الرواية التي صارت أسطورةً تحكى وجعلت من بيتهوفن مثلا يُحتذى به في التاريخ، فإن ميل بيتهوفن منذ سن التاسعة عشرة نحو مبادئ الجمهورية وقيم الديمقراطية التي تمخضت عن الثورة الفرنسية، ظلّ محل إجماع، الأمر الذي حدا به أن يمتنع عن حيازة الألقاب النبيلة، وأن يسخر من مظاهر الطبقية في المجتمع. تلك المواقف المبدئية ما لبثت أن لانت لديه بعض الشيء، غداة انتقاله للإقامة في فيينّا، حيث اختلط فيها بعلية القوم، ليصير أكثر محافظة، وإن ظلّ على الدوام من دعاة الحرية والديمقراطية والعلمانية.
انطلاقاً من مراجعته لحال فرنسا بعد الثورة، كان بيتهوفن قد رأى في نابيلون شخصية قادرة على إعادة الأمن والاستقرار للبلاد، بعدما عمت الفوضى نتيجة تفكك البنى الاجتماعية والصراع على السلطة. بيد أن صدام بيتهوفن النهائي بمشروع نابليون بونابارت، أتى على إثر سحْق الأخير للنمسا إبان حرب "الائتلاف الخامس" عام 1809، لا سيما حينما قُصفت فيينّا بالمدفعية، الأمر الذي جعل من بيتهوفن يزدري شخص ذلك الإمبراطور الذي لم يعد راعيا للحرية ولا محافظا على الديمقراطية، وإنما مجرد فاتح محتل يخوض الحرب إثر الحرب، ليزيد ملكه، ويُمكّن عرشه، ويوسع سلطانه.
ما إن هُزم نابليون في حرب "شبه الجزيرة الإيبيرية" عام 1814، ثم نُفي إلى جزيرة إلبا، حتى ابتعد بيتهوفن كلياً عن وصفه وذكراه، واصطف مع الحلفاء الإسبان والمقاومين البرتغال بقيادة بريطانيا. تُرجم اصطفافه هذا، بعمل أوركسترالي تصويري صغير، يرسم مشاهد معركة "فيكتوريا" التي انتصر فيها الماركيز ويلينغتون في شهر حزيران من عام 1813. في المحصلة، وعلى الرغم من الأسطرة التي شابت العلاقة بين نجمين من نجوم العصر، تألق أحدهما بالموسيقى والآخر بالحرب والسياسة، فإن الأقرب إلى اليقين في هذا كله، هو إيمان بيتهوفن الحقيقي بصعود التيار القومي الجمهوري والديمقراطي في أوروبا، مقابل أفول عصر الملكية واستبداد الأرستقراطية الإقطاعية، إرهاصاً من إرهاصات الثورة الفرنسية.
V: Visionär ذو البصيرة
رؤية بيتهوفن متعددةُ الزوايا والأبعاد، وإن انسلّت عبر منظور واحد؛ هو الموسيقى. كلٌّ من سيرة حياته، سلوكياته، تقنياته وإبداعاته الفنية، أفكاره ومواقفه السياسية، تبلورت جميعها في إنتاجاته الموسيقية. ولعل أفصح ترجمة فكرية وجمالية لها تبقى سيمفونيته التاسعة الشهيرة، وعلى وجه التحديد، المقطع الختامي، الذي عُدّ حينها ثورة ضمن قالب السيمفوني، وقد خصه بيتهوفن بجوقة مغنين تنشدُ مقطعاً من قصيدة راجت آنذاك، للشاعر الألماني فريدريك شيلر، بعنوان "نشيد الفرح".
بحسب ما سبق، فإن حلم تلحين قصيدة "نشيد الفرح" لشيلر كان قد رافق بيتهوفن منذ عهد الفتوة في بون، وذلك على الرغم من أن المسودّات التي خلّفها وراءه تشير إلى محاولاته البحث عن خاتمة آلية للحركة الأخيرة من السيمفونية، قد يُستعاض بها عن الجوقة، أو يُقدم من خلالها تمهيداً لدخول المغنين على خط الموسيقى. بالنظر إلى تاسعة سيمفونياته كونها باكورة إنتاجه السيمفوني، ولعلها قد تكون بمثابة العمل الأخير وختام المشوار، فعلى الأرجح أن بيتهوفن قد اعتقد يقينا، أنه آن الأوان ليلحن كلمات شيلر، ليس بوصفها منطوق الشاعر وحده، وإنما شهادة الملحن الأخيرة، وتجسيد رؤيته، بالكلام والأنغام، في مستقبل البشرية.
إنها لرؤية طوباوية إذن، تلك التي أعلنها بيتهوفن بلسان شيلر. أخوَّة في الإنسانية بين كل سكان الأرض، في عهدة ربوبية كونية رؤوفة، وإن خص بتضمين تلك الرسالة شاعراً هو من أشد مثقفي عصره تمسكاً بقيم العلمانية. "كل ناس الأرض أخوة في الإنسانية" يقول شيلر، بأسلوب أدبي كلاسيكي، يؤكد على تكوين بيتهوفن الفني والثقافي. وتلك معاني كلمات كان لها حينها أصداء حول العالم، ألهمت كتّاب إعلان استقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني عام 1776، وإعلان فرنسا لحقوق الإنسان عام 1789.
بيتهوفن، وقبله شيلر، أصيبَ بالصدمة إزاء العنف الذي نجم عن الثورة الفرنسية. بيتهوفن على الأخص، كان قد قضى حياته في مهبّ الريح السياسية التي عصفت بالقارة الأوروبية منذ اندلاع الثورة، ثم الثورة المضادة، فالحروب النابليونية، انتهاءً بحكم مترنيخ التعسفي للنمسا منذ سنة 1815.
وبينما أظهر بيتهوفن في وقت متأخر اهتماماً بفكر شيلر وقصائده، عرّف الأخير بدوره عن نبوغ بيتهوفن الفني، منذ كان يتمتع بألق الشهرة في صالونات فيينا، علاوة على إلمامه بميوله السياسية جهةَ الحراك الثوري المتقد. في رسالة بعث بها أحد تلامذة شيلر إلى زوجة الشاعر، يحكي له عن بيتهوفن، وعن نيته تلحين "نشيد الفرح"، يقول بارثوموليوس فريدريخ عن الموسيقي اليافع: "إني أتوسم كمالاً سوف يأتي به هذا الموسيقي الشاب؛ على قدر معرفتي به، أجزم بأنه قد جند روحه في سبيل كل سامٍ وعظيم".
وإن ظل قالب السيمفونية التاسعة تقليدياً ذا أربع حركات، غير أن تصميم الخاتمة الغنائية، إضافة إلى شهرة لحن نشيد الفرح العابر للأزمنة والعصور، جعل من ذلك العمل حاضراً ومستقبلياً بقدر ما هو تراثي وكلاسيكي. فنشيد الفرح غدا لحن نشيد الاتحاد الأوروبي، ونغماته يعرفها الصغار والكبار، يرددها كل لسان من الصين إلى اليابان. على الصعيد التقني، لم يكن إقحام خاتمة غنائية في قالب آلي سيمفوني تقليدي، سوى فرصة لكي تتجلى عبقرية المؤلف، عبر إيجاد سرديات موسيقية تمكن من دمج الآلي بالغنائي، والانتقال السلس تقنياً، كما العاصف درامياً، من التعبير بالآلة إلى تقديم رؤية طوباوية عبر حناجر المغنين، لمستقبل البشرية، توازياً مع التصوير سيمفونياً، الحراك الثوري الذي عبر بأوروبا من حقبة نحو أخرى على صعيد السياسة والثقافة.
N: Naturfreund صديق الطبيعة
تتجلى صداقة بيتهوفن للطبيعة وحُبه للغابات والحقول في رائعته الأوركسترالية وسادسة سيمفونياته المعنونة بـ "الريفية". من يقرأ سيرة حياته التفصيلية، وعلى وجه الخصوص عن تلك الفترة التي قضاها في فيينّا، يلفتْه كم من مرة غيّر بيتهوفن من مسكنه، والسبب يعود بحسب من صاحبه وآنسه، إلى كرهه حياة المدينة. لزاماً عليه وفي كل صيفية، أن يقضي جلّ وقته في الأرياف.
يروي صديقه عازف البيانو البريطاني تشارلز نيتس كيف كان بيتهوفن "يفتتن بمنظر الأزهار والغيوم وموجودات الطبيعة الأخرى". لم يكن ليقطن حياً ما لم يكن مزروعاً بالشجر. كان يمشي كل يوم لساعات طويلة في الحقول والغابات وتحت المطر، يدون على مسودة يحملها في جيب معطفه استلهاماتٍ موسيقية للقادم من الأعمال.
كتب بيتهوفن يوماً في إحدى رسائله: "لكم أنا سعيد ومحظوظ، لقدرتي على أن أجول في الغابات وبين الأيْك، ترِفُّ حولي الأشجار وتزهر الأزهار من بين الصخور والأحجار. لا أحد يعشق الريف قدر عشقي له، فيه تحاكيني كل شجرة، تقول لي؛ يا قدوس، يا قدوس، ففي الريف ذاك السحر الذي يعبّر عن سائر الوجود". حين بدأ سمعه يتضاءل حتى الصمم، بات الريف لبيتهوفن المستراح. فهناك كما يقول: "لا يضرني الصمم" بل على العكس، منه ومن الطبيعة، استوحى بيتهوفن سيمفونيته الريفية، فأتته كدفق علاجيّ لروحه، التي لم تعد لتحتمل ضغط العيش اليومي. حلت ريفيّته كمستجم ومستراح من عسر الحياة ومأساويتها.
يحكى أن أقرب الكتب إلى متناول يد بيتهوفن كان بعنوان "تأملات في خلق الله داخل مملكة الطبيعة" للداعية والكاتب الألماني كريستيان ستورم. إلا أن بيتهوفن لم يكن عابداً للطبيعة بقدر ما كان يؤمن إيماناً صوفياً بأنها من يعبُد الرب باستمرار. وعليه، فإن السيمفونية "الريفية" أتت تسجيلاً لذاكرة صوتية ما زالت تحوم في مخيلة مؤلف أصم، لتسمو من خلال استذكار سحر الطبيعة بحياةٍ بات يُثقل كاهلها الضعف والسقم.
أكمل بيتهوفن سادسته نحو عام 1808 قرب فيينّا، بيد أن المسودات الأولى للعمل تعود إلى بضع سنين سبقت ذلك. وفيها قَرَن بيتهوفن مخطوط كل لحن بوصف مشهد طبيعي. من هنا، أتى العمل تصويرياً، كل جزءٍ منه يحمل عنواناً أشبه بلوحة تشكيلية، وإن حذّر بيتهوفن من مغبّة تحويل تلك العناوين أدائياً إلى قيودٍ تحدّ من عنان مخيلة المستمع.
عنوان الحركة الأولى "يقظة مشاعرُ غبطةٍ عند الوصول إلى الريف". كما يوحي العنوان، تتناهى الموسيقى كالنسيم العليل الذي منه تتفتّح كل الألحان والائتلافات في بنيان عضوي متجذّر ومتصل. "مشهدٌ عند الغدير" عنوان الحركة التالية؛ حيث الإحساس بالغبطة والطمأنينة ما زال يلازم سيرورة الموسيقى، فيما الوتريات تجسّد صوت خرير الماء عند ضفّة الساقية. الحركة الثالثة مؤنسنة، تحمل عنوان "جمعٌ مرِح من القرويين" تُستهلّ برقصةٍ ريفية، ريثما تعود دِعة الطبيعة لتغمر الأجواء. الحركة الرابعة تمجيدٌ لقوة الطبيعة وبأسها، وعنوانها "العاصفة"؛ إذ يرعدُ الطبل نذيراً، فيما يصعّد اضطراب الائتلافات الهارمونية المشهد فيصير كما وصفه المؤلف والناقد الموسيقي الرومانسي هيكتور برليوز "أقرب إلى الطوفان". تأتي الحركة الأخيرة راحةً للمستمع، عنوانها "أغنية الرعيان، فرحُ شكران عقبَ انحسار العاصفة"؛ من بساطة المعالجة وعذوبة الألحان، يبدو بيتهوفن وكأنه يريد لآخر حركة أن تعيدَ الغبطة والانشراح إلى قلوب قهرها جبروت العاصفة، وعليه، هي بمثابة يدٍ تمدها الطبيعة إلى الإنسان، ذراعٌ تعانقه، وشفة في السماء تهمس في أذنيه: أنت منّي وإليّ.