الصورة نفسها يتشارك فيها الجميع. صورة الثوار وهم يدخلون محمد محمود وفي مواجهتهم خراطيم المياه، والشرطة المدججة بالدروع والطاسات والأسلحة. فوق الصورة، أو ربما تحتها، تلك التعليقات الكئيبة. "أحلى ما في الحلق طعم المر من الذكرى" يكتب أحمد خير الدين فوق الصورة مقتبساً من صلاح جاهين. في هذه اللحظة تحديداً أكره صلاح جاهين. لا يمكن للقصة أن تكون قد انتهت هنا. مستحيل. لا يمكن لكل ما حصل ان ينتهي من حيث بدأنا. بل من مكان أسوأ: الديكتاتورية نفسها، لكن هذه المرة أسقطت معها كل الأيقونات. عبد الرحمن الأبنودي، شاهندة مقلد... كل هؤلاء الذين زحفنا إلى مصر بعد الثورة لنتصور معهم، باتوا جزءاً من المنظومة البشعة. يتصورون مع السيسي وهم مبتسمون. من اين لكم هذه القدرة على الابتسام؟
في العام 2012، جمعنا، أنا وصديقتي ربى المبهورتين بالثورة المصرية، صوراً كثيرة من يوميات الميدان، وألصقناها على دفتر كبير، لتتحول إلى ألبوم. وقلنا وقتها: "سنريها لأولادنا ليعلموا أن العالم العربي الديمقراطي الذي يعيشون فيه، بدأ من هنا". يومها بدت حتى التفاصيل الصغيرة أسهل وأجمل: بدا الزواج وإنجاب الأولاد أمراً جميلاً وآمناً. كنا فرحين بالثورة التونسية، لكن مصر كانت الاقرب إلينا، مصر أذهلتنا. ودمّرت كل المعتقدات التي اكتبسناها لأننا ولدنا في السبعينيات والثمانينيات، يوم كانت كل مشاريع التحرر قد دفنت، ويوم كان البقاء على قيد الحياة هو وحده الهدف في شوارع لبنان الغارقة بطوائفها.
أفتح ألبوم الصور. وأبتسم. أبحث في الجموع عن وجوه تعرفت عليها بعد الثورة. أحمد، حسام، آية، أيمن، حسين، رشا، سولافة. أبحث عن تلك الابتسامة التي لم تكن تغادر وجوههم. يعملون بأجور زهيدة، يعملون لساعات طويلة، ومع ذلك لم يشتكوا يوماً. لكن كل ذلك انتهى. اليوم جميعهم يريد الهجرة. "الموضوع مش هزار، ممكن يقتلونا، يرمونا على ناصية الطريق، ويكملوا حياتهم عادي" يقول أحمد. حسام لا يعرف كيف سيربي ابنه، هو الذي تشجع على الزواج المبكر والإنجاب، لأن مصر "أكيد أحلى" كان يردد بعد الثورة. ينظر اليوم إلى ابنه ولا يعرف كيف سينقذه من هذا الجحيم المسمى بلاداً. حتى الشوارع الجميلة بدأت تضيق بروادها. رشا التي تلقت ضربة على رأسها خلال الثورة، والتي طردها والدها من البيت لأنها كانت تنام في ميدان التحرير، وجدت نفسها فجأة بلا وطن ولا أحلام. تكتب يومياً إلى السفارات الأجنبية، السويد تحديداً، رسائل إلكتروينة تستجدي فيها اللجوء السياسي تارة، والهروب من عائلة تريد قتلها لأنها خلعت الحجاب تارة أخرى... هذه وأسباب كثيرة أخرى تخترعها آملة فقط أن تستجيب إحدى السفارات.
هل هكذا ستنتهي الحدوتة؟ لا شيء يدعو إلى التفاؤل... لا شيء إطلاقاً، حتى هؤلاء الذين كنا نحبهم اختفوا. تركوا الساحة للشتامين، ليوسف الحسيني، وعمرو أديب، ومجدي الجلاد... هؤلاء الذين يمثلون كل ما نكره نحن. حان موعد الانسحاب الآن. من بعيد سنشاهد ما يجري. سنعد أسماء المعتقلين، سنوثق صورهم، ونطالب بحريتهم. سنشارك صور طلاب الجامعات الشهداء... هكذا يقول لي صديقي. يقول ليدمروا هذه البلاد، ليهجّروا أهل سيناء، ويعتقلوا كل اصدقائنا. عندما نغادر هذا الخراب لا نريد أن نلتفت إلى الوراء.