200 ألف طفل في غرفة معزولة

11 سبتمبر 2016
(تصوير: كريستوفر فورلونغ)
+ الخط -

أكثر من 200 ألف مولود في الساعات الأولى من كل يوم. هؤلاء الآلاف من الأطفال الذين ينطلقون بصحبة ذويهم من دون أي وعي وتصوّر لما سيقابلهم من ظروف حياتية، الذين لم يكن لهم أي خيارٍ في القدوم إلى العالم، يذهبون إلى تلك المنازل المغلقة برفقة من يقطنها بجانب الوالدين أو أحدهما، ماذا يُفعل بهم؟ كيف تتكوّن ذواتهم ومدى تأثير من حولهم عليهم؟

يقول الطبيب النفسي عادل صادق، إن الفرد لديه عدة ذوات تخدمه في إدارة حياته وتعاملاته وتصب في تنشئة الأجيال القادمة من النسل ذاته، أولها الذات الطفولية التي كونها الفرد في مرحلة مبكرة من عمره، كما حدّدها صادق، من عمر سنة إلى سبع سنوات؛ لتعود تلاحقه تبعاتها في المراحل المتقدمة التي تُعنى باحترامه وتقديره لنفسه ولمن حوله.

ثانيها، الذات البالغة؛ وهي رحم فكره الخاص وموجده. فهي التي تبنى عبر تجارب الفرد الشخصية - التجارب المجردة من أي مؤثر خارجي مباشر؛ ذات محررة من كل القيود، فهي ذات مستقلة دُلِلَ عليها منذ القدم في كتابات أفلاطون؛ ظهرت في كهف أفلاطون والظلال التي لو ألقى مشاهدها النظر من زاوية غير التي قيل له أن ينظر منها لوجد الأشياء التي تلقي بظلالها بصورة لا تعبّر عن شكلها الحقيقي.

وأخيرًا، الذات الوالدية؛ وهي الذات التي تكتسب ويُعَبّر عنها في العموميات الفرد في اختياراته ومسار حياته عن طريق تحزباته العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية.. إلخ، من الوالدين البيولوجيين أو من يحل محلهما.

تأتي هذه الاختيارات وفق ظروف لم يكن سوى للمصادفة دور بها. قد تولد في مجتمع ذي بشرة فاتحة أو داكنة، بديانة سماوية أو وضعية، تحت قيادة حزب وصراعات سياسية في ظروف اجتماعية مميزة عن غيرها، تختلف تمامًا عن مجموعة أخرى، لأنه قد يكون هدف مجموعة ما مبني على حساب وجود أخرى تتعارض معها.

في هذا السياق، تجد الأفراد يدافعون عنها دون الفهم الكافي لما تصبو إليه هذه المجموعة من خلقها لهذه الظروف وإيمانها بتلك المعتقدات وسبب نشأتها الفعلي. هنا، تأتي فكرة إرادة المجتمعات، فهي التجمعات للأفراد دون اختيار مباشر؛ يختلف المجتمع عن الجماعة بأن المجتمع تكوين أفراد؛ جُبل الفرد على التفاعل معهم بحكم العنصر الجغرافي والزماني لتحقيق أهداف أساسية في البقاء، أما الجماعة فهي مجموعة مختارة من الأفراد تتشابه في أهداف أكثر خصوصية.

بالعودة إلى الذات الوالدية؛ نجد أنها متوارثة عبر الأجيال بصورة نسبية متفاوتة عبر المراقبة، يمكن ملاحظتها في تصرفات الأفراد، وتنعكس تبعاتها أيضًا عليهم، فتكون أغلب العادات والتصرفات والمعاملات بين الأفراد التي نقوم بها هي معاملات تناقلت عبر أجدادنا رغم عدم التقائنا بهم.

جسّد هذه الفكرة المخرج ليني أبراهامسون في فيلم "الغرفة"، الذي حاز عدة جوائز، من بينها الأوسكار؛ حيث كانت تشرح الأم لابنها المعزول برفقتها عن العالم الخارجي، من منطلق أنه لا عالم خارج هذه الغرفة لسد أي تساؤل عن سبب هذه العزلة التي يعيشون بها. كل الأفكار المتسربة من وجود خارجها هو وهم لا حقيقة، الأطفال الآخرون والسيارات، والطائرات والألعاب المعقدة التركيب هي محض خيال ظهر على التلفاز.

كان من السهل عليها تشكيل هذا العالم؛ فكل ما هو متعلق بالغرفة واقع الطفل وغيره كذب؛ لأن حواس الطفل لم تدركه وبالتالي لم يتعرّف عليه؛ فكانت أمه بالنسبة له مصدر المعلومات والإجابات الوحيد، فلم يكن له خيار غير تصديقها.

عندما خرج الطفل لمواجهة العالم بعدما صنعت الأم أُطُرًا فكرية تعلم بأنها خاطئة لكن لتسهّل عليها التعامل معه، كان من الصعب عليها هدمها عندما احتاجت ذلك، وأرادت لطفلها التحرّر لمساعدة نفسها ومساعدته عند الخروج من الغرفة إلى العالم الحقيقي للمرة الأولى.

أصيب الطفل بالتشويش والارتباك؛ إذ لم يستطع استيعاب هذا الاتساع الذي يحيط به، رغم أن الفيلم لم يسهب في مناقشة ما بعد تعرضه للعالم الخارجي، نتيجة للأطر، إلا أن الطفل عند انتقاله من غرفة معزولة صغيرة، اختار الجميع من حوله أن يبقى في عزلة ولو مؤقتة داخل بيت جدته؛ ولأنه طفل ولم يكبر كفاية ليلتزم بوصايا الكبار، خرج إلى الحديقة الخلفية للعب؛ وتخطى ما لم تتخطاه أمه.

كل ما سبق، مضافًا إليه الدراسات والملاحظات والأفكار ما ذكر منها وما لم يذكر، والمتعلقة بتنشئة الفرد النفسية والفكرية، تضعنا في تساؤلات حول سهولة قرار الإنجاب في مجتمعاتنا، وسهولة أن نلقي بأفراد آخرين داخل الغرفة المعزولة التي ولدنا فيها، وإن تمنى الكثير منا الخروج منها، إلا أننا نعيد إنتاج أنفسنا داخلها من جديد.

المساهمون