يخلّد الأردنيون عام 1989، وكيف لا وقد شهد، في أعقاب انتفاضة عارمة اندلعت منتصف أبريل/ نيسان، إلغاء الأوضاع الاستثنائية، التي طوقت رقاب الأردنيين في أعقاب هزيمة 1967 بذريعة حالة الحرب مع إسرائيل، لتدشّن المملكة مرحلة من التحول الديمقراطي تمثلت في عودة الحياة البرلمانية، وشرعنة عمل الأحزاب السياسية، وإطلاق الحريات العامة.
تُرجم التحول الديمقراطي عملياً، حينها، بالدعوة إلى انتخابات برلمانية أجريت في 8 نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام، وأفرزت الانتخابات مجلس النواب الحادي عشر، أو ما يعرف شعبياً بـ"مجلس 89"، الذي يترحم عليه السياسيون والحزبيون كلما تحدثوا عن الانحدار المتواصل في أداء المجالس النيابية، ولا سيما أنه المجلس الوحيد، الذي انتخب منذ عودة الحياة النيابية على قانون يتيح للناخبين عدد أصوات مساوياً لعدد المقاعد المحددة للدائرة، وهو ما مكّن الأحزاب السياسية من المنافسة والوصول إلى قبة البرلمان.
ولم يصمد المجلس، الذي فرضته رياح الانتفاضة، وأنجز مهمته في إرساء قواعد التحول الديمقراطي عبر إلغاء قانون الأحكام العرفية، وإقرار قانون الأحزاب، فضلاً عن قانون محكمة العدل العليا، المطبوعات والنشر والنبش في قضايا الفساد، حتى نهاية مدته الدستورية المحددة بأربع سنوات، حين حله الملك الراحل، الحسين بن طلال، في 4 أغسطس/آب 1993، بعد أن داعبت نسائم السلام، الذي كان يجري إنضاجه سراً بين المملكة وإسرائيل منذ عام 1991، المشهد السياسي الأردني.
ويقول سياسي أردني بارز ساهم في ترتيبات تلك المرحلة: "أدركنا، في مطبخ القرار، استحالة تمرير معاهدة السلام بوجود مجلس نواب قوي قادر على رفضها، فأصبح الهدف إيجاد مجلس نواب ضعيف تَسْهُلُ السيطرة على قراره".
وعلى ذمة السياسي نفسه، "انتهت المداولات في مطبخ صناعة القرار إلى تعديل قانون الانتخاب بما يمنع وصول أغلبية معارضة، خصوصاً الإسلامية منها، التي كانت أكثر تنظيماً وقدرة على تحقيق نتائج في حال جرت الانتخابات بناءً على القانون، الذي اعتمد عام 89"، وهو ما أصبح أحد ثوابت الوعي السياسي في الأردن.
بدا واضحاً أن كل شيء مرتب بدقة، فالملك الراحل، الحسين بن طلال، عهد في 29 مايو/أيار 1993 إلى رئيس الوفد الأردني في مفاوضات السلام، عبد السلام المجالي، بتشكيل حكومته الأولى، وهي الحكومة التي احتاجت إلى 13 يوماً فقط من تاريخ حلّ مجلس النواب، لتُصدِر قانون انتخاب جديداً بصيغة مؤقتة هو "قانون الصوت الواحد"، الذي لا يزال مطبقاً حتى اللحظة، والذي يواصل المجالي، الذي يوصف بـ"عرّاب وادي عربة"، الترويج بأن القانون كان قراره المستقل.
قوبل القانون، الذي حدد للناخب صوتاً واحداً، يمنحه لمرشح واحد، في الدائرة الانتخابية، بغضّ النظر عن عدد المقاعد المخصصة لتلك الدائرة، بغضبٍ من قبل الأحزاب السياسية، التي هددت بمقاطعة الانتخابات، من دون أن تنفذ تهديدها تحت مبرر تغليب المصلحة العامة. في المقابل، قوبل القانون بترحيب من القوى المحافظة والعشائرية، ولا سيما أنه يتيح لها حضوراً أكبر في مجلس النواب.
بناءً على قانون الصوت الواحد، انتخب في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1993 مجلس النواب الثاني عشر، الذي وجد نفسه بعد قرابة عام من انتخابه، وجهاً لوجه مع معاهدة "وادي عربة"، والتي عوملت معاملة القانون ومرت أو مُررت بالقنوات الدستورية، بعد توقيعها، في حفل ضخم أقيم في منطقة وادي عربة يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1994.
وتكون المجلس الثاني عشر من 80 عضواً، شكّلت الأحزاب فيه 16.8 في المائة، بعدد مقاعد بلغ 21 مقعداً، تزعمها الإسلاميون بنسبة 13.6 في المائة، وبعدد مقاعد بلغ 17 مقعداً.
ويقول البرلماني الأردني المخضرم، مصطفى شنيكات، الذي كان شاهداً على تلك المرحلة، إن "قانون الصوت الواحد مثّل ضربة قاصمة للحياة السياسة، فمن خلاله غُيّبت الأحزاب عن البرلمان، أو حُجّم وجودها، وهي التي لا يمكن أن تستقيم العملية الديمقراطية من دونها".
ويشخّص شنيكات، صاحب الخلفية الشيوعية في البرلمان الحالي، والذي كان نائباً في المجلس الثاني عشر، الذي أقرّ المعاهدة، الواقع الحالي في سياقه التاريخي قائلاً "ها نحن اليوم، بعد نحو عشرين عاماً من قانون الصوت الواحد، لم نصل إلى إصلاحات سياسية وتعزيز لدور حقيقي لمجلس النواب في الحياة السياسية، كما كنا نستبشر عندما بدأ الانفراج الديمقراطي عام 1989".
ويكشف، وهو الذي عارض المعاهدة إلى جانب 22 نائباً عندما عرضت على المجلس للتصويت عليها في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1994، عن أن الدولة لم تكتفِ بوجود مجلس نواب ضعيف بل "مارست ضغوطاً على النواب للتصويت لصالح المعاهدة، رغم أنها نفّذت حملة لحشد الرأي العام لصالح المعاهدة في مواجهة مجلس النواب".
بدوره، يؤكد النائب في مجلس النواب الثاني عشر عن الحركة الإسلامية، حمزة منصور، أن "قانون الصوت الواحد فُصّل تفصيلاً من أجل تمرير معاهدة وادي عربة". ويرى أن "المحافظة على القانون حتى الآن تمثّل حماية للمعاهدة من خلال عدم وصول قوى حزبية وسياسية لمجلس النواب تستطيع تشكيل أغلبية قادرة على الإطاحة بالمعاهدة".
ويشدد منصور، الذي شغل مناصب قيادية داخل الحركة الإسلامية، من بينها منصب أمين عام لحزب "جبهة العمل الإسلامي"، الذراع السياسية لجماعة الأخوان، على أن الحكومة "حشدت كل أسباب تمرير المعاهدة، إذ، إضافة إلى قانون الصوت الواحد، أثّرت الحكومة على قرار العديد من النواب بالترغيب والترهيب، وحولت، يوم التصويت، المنطقة المحيطة والمؤدية إلى مجلس النواب إلى ثكنة عسكرية لترهيب النواب".
وكانت الحكومة، حينها، قد بررت قيامها بنشر قوات عسكرية في محيط مجلس النواب، لحظة التصويت على المعاهدة، بمنع أي اعتداء محتمل بعد وصول تقارير أمنية إليها تتحدث عن مخططات لتنفيذ أعمال تخريبية.
وسبقت إقرار مجلس النواب للمعاهدة، حركة نشطة داخل أروقة المجلس ولجانه الدائمة، هدفها تعديل القوانين بما يتلاءم والمرحلة الجديدة، فألغيت قوانين المقاطعة الاقتصادية وحظر التعامل مع العدو، الذي لم يعد عدواً، وعدلت قوانين التعليم والسياحة وغيرها. ومن دلائل استعجال الإنجاز وقتها، أن أروقة المجلس وقاعاته ضاقت بالحركة النشطة، فنقل جزء من اجتماعات اللجان النيابية ولقاءات الحكومة مع النواب إلى قاعات مسجد الملك المؤسس القريب من المجلس، حسب ما تتطابق روايات النواب، الذين شهدوا تلك الفترة.
وتعدى قانون الصوت الواحد مهمته الرئيسية بتمرير المعاهدة، ليقوم بحمايتها من خلال ضمان أغلبية نيابية تَسْهُلُ السيطرة عليها، مقابل أقلية معارضة، كما يؤكد منصور، لتصبح المعارضة ديكوراً تحرص الحكومة على وجوده تحت القبة، كما يروج مقاطعو الانتخابات كلما أجريت.
وفي أحدث مثال على دور قانون الصوت الواحد في حماية المعاهدة، ما شهده مجلس النواب الحالي خلال ديسمبر/كانون الأول 2013، عندما أودعت مذكرتان، تطالبان بإلغاء معاهدة السلام، أدراجَ لجنة الشؤون الخارجية شهوراً، من دون دارستها للعرض تحت القبة.
وتكرر المشهد في الربع الأول من عام 2014 عندما قرر مجلس النواب بالإجماع طرد السفير الإسرائيلي من عمّان، داني نافو، وإلغاء معاهدة وادي عربة، رداً على قتل جندي إسرائيلي للقاضي الأردني، علاء زعيتر، أثناء توجهه من الأردن إلى مدينة نابلس يوم 10 مارس/ آذار، وهي المطالب التي امتنعت الحكومة عن تنفيذها ليقرر مجلس النواب التصويت على طرح الثقة بالحكومة يوم 18 من الشهر ذاته، وهو تصويت انتهى بتجديد الثقة بها، ليعلن نواب غاضبون خلال الجلسة أن ما حدث "تجديد للثقة بمعاهدة السلام وليس الحكومة".
اليوم، وبعد مرور عشرين عاماً على معاهدة السلام، وقرابة الواحد والعشرين عاماً على قانون الصوت الواحد، الذي يواصل دوره الذي وجد لأجله، وسط دفاع رسمي عن بقائه من دون حسابات كلفته على تخلّف المسيرة الديمقراطية للمملكة، تدرك القوى الإصلاحية العلاقة المترابطة بينه وبين المعاهدة، وهي التي دأبت، في تحركاتها المنادية بالإصلاح، على جمع المعاهدة والقانون بمطلب واحد، هو إسقاط الأولى وإلغاء الثاني، في مطلب لا يزال يلقى آذاناً صماء، وهو ما دفع برئيس الوزراء الأردني السابق، أحمد عبيدات، الذي قاد، خلال الربيع العربي، تياراً للإصلاح في الأردن، إلى التساؤل خلال محاضرة عامة نهاية عام 2010: "إلى متى سيبقى الشعب الأردني أسيراً لقانون تم وضعه استجابة لاستحقاق أملتها معاهدة السلام الكاذب؟".
لم تقتصر الجهود الحكومية في لجم التحول الديمقراطي استجابة لمعاهدة وادي عربة على قانون الصوت الواحد، بل طالت جملة من القوانين، كما يؤكد نقيب المحامين الأردنيين السابق، صالح العرموطي.
ويسرد العرموطي، من تلك القوانين، إلغاء قانون منع بيع العقار للعدو وتعديل القوانين الاقتصادية. كما فُرضت قوانين جديدة تضيّق على المواطنين وحريتهم، كقانون الاجتماعات العامة، الذي شُرّع بعد "وادي عربة" ليضع ضوابط على حق التجمع والتظاهر، إذ تلزم الأحزاب بالحصول على موافقة لتنفيذ برامجها وأنشطتها، والتي كانت غالباً تُرفض من قبل الجهات الأمنية. وهو القانون الذي يصفه العرموطي "بالعرفي" قبل أن يتم تعديله في الآونة الأخيرة وينزع منه جزء من الضوابط السابقة.
كما تم إقرار قانوني الوعظ والإرشاد، وقانون الفتاوى، لتمنع المنابر على مناهضي "وادي عربة" ويمنع إصدار فتاوٍ تحث على الجهاد وقتال العدو. ويشير العرموطي إلى أن أحدث تلك القوانين هو التعديل، الذي أدخل على قانون منع الإرهاب عام 2014، الذي ساوى بين الإرهاب والمقاومة المشروعة.
وعانت الأحزاب السياسية من تراجع الحريات وخنقها في أعقاب توقيع المعاهدة. ويقول الأمين العام لحزب "الوحدة الشعبية"، سعيد ذياب: "أُلجمت الديمقراطية وحوصرت الأحزاب بذريعة السلام"، وتمثل الحصار، بحسب ذياب، بقانون الصوت الواحد، الذي سهل فرص القوى والرموز المرتبطة بالنظام والمستفيدة من السلطة للوصول إلى قبة البرلمان، وحرم ممثلي الأحزاب والمؤسسات والنقابات من الوصول.
ويرى أن الحرب على الأحزاب السياسية استمرت، من خلال المطاردات الأمنية للمنتمين إليها، والتضييق على أنشطتهم وحقهم في الوظائف.
ويشير إلى أن التضييق على الحريات العامة، من خلال القوانين، التي عدلت تحت سطوة المعاهدة، كان يهدف إلى إعادة صياغة الوعي الأردني تجاه العدو، بما يخدم بقاء الاتفاقية واستمرارها، من دون معارضة وانتقاد، وهو ما دفعت الدولة ثمنه بتعطيل التحول الديمقراطي والعودة بالمملكة إلى زمن الأحكام العرفية من دون إعلانها.
وبلغ تحصين معاهدة "وادي عربة" ذروته عندما قررت الحكومة تضييق الخناق على معارضيها عبر وسائل الإعلام، فأصدرت حكومة عبد السلام المجالي الثانية، في مايو/أيار 1997 قانوناً مؤقتاً للمطبوعات والنشر، ضاعف بأثر رجعي رسوم تأسيس الصحف الأسبوعية المدفوعة، لتصبح 350 ألف دينار، نحو 493 ألف دولار، بعد أن كانت محددة بـ 15 ألف دينار، قرابة 21 ألف دولار.
ويقول رئيس مركز حماية حرية الصحافيين، نضال منصور، إن "القانون استهدف وقتها بشكل مباشر، الصحف الأسبوعية، التي كانت منبراً لقوى المعارضة والنقابات والمجتمع المدني، إضافة إلى تسليطها الضوء على فساد الإدارة".
ويرى أن "لجم الأصوات المعارضة للمعاهدة كان من الأسباب غير المعلنة للقانون"، وهو القانون الذي يدلل عبره منصور على أن "الحكومات الأردنية تضيق ذرعاً بالمنابر، التي تراقب أداءها السياسي والاقتصادي وتنتقدها، وتؤلب الشارع عليها".
وأدى تطبيق القانون بأثر رجعي على الصحف القائمة إلى إغلاق 13 صحيفة أسبوعية، عجزت عن تصويب أوضاعها، ورغم وقف العمل بالقانون بقرار من محكمة العدل العليا، التي اشتكى إليها أصحاب الصحف المتوقفة، إلا أن غالبية الصحف عجزت عن العودة، بعدما قدمت الحكومة قانوناً جيداً لم يغير من سابقه إلا في الشكل.
ولا يزال اليوم التحول الديمقراطي يراوح مكانه. يصرّ السياسيون على أن بلادهم تعيش خطواتها الديمقراطية الأولى، متجاهلين أن الخطوات تلك، بدأت في عام 1989، وتصطدم الآن نوايا الإصلاح الرسمي، الذي فرضته نسائم الربيع العربي عندما داعبت المملكة، بإرث ثقيل من القوانين المناهضة للإصلاح، وبغياب أعراف ديمقراطية وسياسية يمكن أن يبنى عليها، من دون أن يحملوا المسؤولية من قريب أو بعيد للاستحقاقات التي فرضتها معاهدة "وادي عربة"، والمتمسكين بها كخيار "استراتيجي".