مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في تونس، تدخل الحملات الانتخابية مرحلتها الحاسمة، وسط استنفار الأحزاب السياسية المتنافسة كل ما لديها من قوى تنظيمية، لاستعراض قوتها أمام منافسيها، من خلال حشد أنصارها في اجتماعات شعبية حاشدة.
غير أن اللافت، في الأيام الأخيرة، هو جنوح هذه الأحزاب نحو رمزية اختيار المكان وتحديد الفضاء السياسي الذي يميّزها، لتبسيط الرسائل نحو جمهور الناخبين وحسم الصراعات السياسية الكبرى، التي تُشكّل أصل الاختلاف بينها.
وفي هذا السياق، اختارت حركة "النهضة" مدينة سوسة الكبيرة، التي تقدم عشرة مقاعد للمجلس النيابي المقبل. وجاء الاختيار في توقيت ذكي، من أجل حسم نقاط عدة عالقة، وأبرزها أن سوسة، أحد معاقل الحركة الدستورية والتجمّعية، ليست حكراً على أحد، وأن "النهضة" موجودة بقوة في هذه المدينة، من خلال تجمّع شعبي حاشد في قلب المدينة السياحية.
كما أن الاختيار يصبّ في خانة سعي "النهضة" إلى كسب "معركة سوسة" بما لها من رمزية ومعانٍ، بعد تجنيد حركة "نداء تونس" رئيس أكبر جمعية رياضية فيها على رأس قائمتها، وهو رئيس نادي النجم الساحلي، رضا شرف الدين، وحيث تتوقع لأحزاب الدستورية إحراز نجاح فيها.
وذكّر زعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، بالعلاقة التاريخية التي تربط الحركة بسوسة وبقيادييها، الذين يتحدّر بعضهم من أصل ساحلي. ونفى احتكار الدستوريين والتجمعّيين لجهة الساحل، التي تُعتبر خزاناً انتخابياً هائلاً. وأعلن بشكل صريح "ننفي وجود صراع بين الحركة والسواحلية، وهنالك مَن يريد دق إسفين بيننا".
غير أن كلمة الغنوشي جاءت لتحسم بعض القضايا العالقة بشكل نهائي، حين قال: "نحن جميعنا مسلمون ونعيش في القرن 21، ويجب الابتعاد عن خطاب (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي الذي يقسّمنا، لأن الحديث يدور الآن حول برنامج رجعي متخلّف وبرنامج حداثي تقدمي، وحول أطراف تعيش في القرن السابع وأخرى في القرن 21. وهذا ما كان نوع الخطابات التقسيمية التي كان يعتمدها بن علي".
وأكد الغنوشي، في أكبر ساحات القيروان، أن "التونسيين لم ولن يصدّقوا الاتهامات للنهضة بالتطرّف والرجعية، وسيجدّدون فيها الثقة في الانتخابات المقبلة".
وأضاف أن "المطلوب منّا أن نضع اليد في اليد لتحقيق الازدهار الاقتصادي. فلماذا لا نكون مثل أندونيسيا أو سويسرا؟ وهو أمر يمكن أن يتحقّق". وحسم مسألة "حداثية الحركة" التي يهاجمها خصومها.
غير أن الرسالة الأهم جاءت قبل لقاء سوسة بيومين، حين أعلن الغنوشي بنفسه، في حوار صحافي، أن حزبه مستعدّ لحكومة ائتلاف تضم خصومه العلمانيين، بل إنه أبدى استعداده للائتلاف مع أحزاب يقودها مسؤولو بن علي، أو ما يُسمّى بـ"أزلام النظام السابق، بهدف غرس أول بذور الديمقراطية في البلاد"، بحسب رأيه.
وتُعتبر رسالة الغنوشي، بمثابة توضيح لموقف الحركة نهائياً من هذه المسائل، على الرغم من اختلاف خطابها من مسؤول إلى آخر. فقد سبق لأحد قيادييها، عبد اللطيف المكي، مثلاً، أن أعلن أن التصويت للنهضة في الانتخابات سيمنع عودة النظام القديم.
ولكن دعوة الغنوشي، التي تمثّل الموقف الحاسم للحركة، تأتي لسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الدستورية والتجمعيّة، وما قاربها، خصوصاً غريمتها "نداء تونس" التي تسعى لتعبئة هذه القوى في سوسة، وغيرها من المدن التونسية.
وفي مقاربة مخالفة للاستراتيجية الانتخابية، عمد حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" (حزب الرئيس المنصف المرزوقي)، إلى استدعاء رموز تدعم مجاله الحيوي السياسي، وذلك بعد نشره على مواقع التواصل الإجتماعي صورة قديمة للمرزوقي وأمينه العام، عماد الدايمي، في حركة نضالية لافتة أيام الجمر (المواجهة ضد نظام بن علي).
وذكّر "المؤتمر" بنضال الحزب ضد بن علي، ومؤكداً على التوجّه الداعي إلى تقسيم الفضاء الانتخابي إلى "أحزاب الثورة" في مواجهة "قوى 7 نوفمبر".
وتمسّكاً بالنضالية الحقوقية (سمة الرئيس المرزوقي)، أصدر الحزب بياناً هاماً متعلّقاً بقضية وفاة سجينين شغلت التونسيين في الأيام الأخيرة، معبّراً عن قلقه الشديد من الحالات المتزايدة لعمليات التعذيب المسجلة في التقارير الحقوقية داخل مراكز الإيقاف والسجون والشبهات حول عمليات القتل داخل هذه المؤسسات.
كما طالب الحكومة باتخاذ إجراءات سريعة لإيقاف هذه التجاوزات ولمعاقبة المتسببين فيها. وذكّر بأن "ثقافة الافلات من العقوبة ذهبت مع المخلوع، وأن الحق سيرجع لأصحابه مهما طال الزمن أو قصر".
وهي الشعارات التي يتشبّث بها "المؤتمر" بقوة في كل القضايا السياسية المطروحة على الساحة التونسية، ما يفسّر هذا البيان القوي الذي جاء تفاعلاً مع التزام المرزوقي أمام الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بمتابعة هذه القضية التي تشهد اهتماماً متزايداً منذ أيام.
ونظراً للأهمية الانتخابية لهذا البيان، فقد ختمه الحزب بالاشارة المباشرة إلى أن "تونس، وهي تتهيأ لخوض ثاني انتخابات نزيهة وحرة في تاريخها لاستكمال الانتقال الديمقراطي، فإن التأسيس لدولة قوية وأمن منيع، غير ممكن، إلا عبر دولة ديمقراطية لا تسمح بأي تجاوزات ضد حقوق مواطنيها، وتكفل لهم الحقوق الأساسية، بما في ذلك في وضعية الايقاف والتحقيق".
وأتت هذه الرسائل الهامة والواضحة لتحدّد الفضاء السياسي لحزب "المؤتمر"، وتؤكد عليه من جديد للتونسيين باعتباره الحزب الذي يسعى لتكريس "دولة حقوق الانسان التي لا تسمح بالتجاوزات والتي لا يفلت فيها أيّ (شخص) من العقاب".
ويسعى "المؤتمر" أيضاً إلى التركيز على بعض الفضاءات الجغرافية الرمزية، مثل التركيز على الجنوب التونسي، أو باجة، شمالي تونس، على الرغم من تحرّكه في كل الدوائر الانتخابية.
وفي السياق، حافظ زعيم "حركة وفاء"، عبد الرؤوف العيادي (القيادي السابق في حزب المؤتمر)، على التوجه نفسه لحزبه حين حذّر، الأحد الماضي، في قبلي، في الجنوب التونسي، من "خطر عودة المنظومة السياسية السابقة واستفحال الفساد".
وأشار إلى أن "عودة المنظومة السابقة بدأت تتجلّى من خلال شراء الذمم والتزكيات والتلاعب بالمسار الانتخابي. كما بات استفحال الفساد، أكبر من ذي قبل وقادر على العمل خارج كل أطر الرقابة، بالتواطئ مع العديد من الأطراف، حتى في سلك القضاء، علاوة على عودة منظومة الدكتاتورية والقمع الأمني".
وشدّد على أن "الانتخابات المقبلة تُعدّ من أبرز المحطات النضالية الدقيقة"، وهو تقريباً خطاب حزب "المؤتمر" نفسه الذي يرى في الانتخابات المقبلة موعداً تاريخياً للحسم مع المنظومة القديمة، ويسعى إلى تأكيدها كاستراتيجية انتخابية واضحة، يتبنّاها بوضوح وتتمايز عن بقية الخطابات المترددة لأحزاب الترويكا السابقة.
كما أعلنت حركة "نداء تونس" عن انطلاق حملتها الانتخابية من حيّ الملاسين في العاصمة، أشهر الأحياء الشعبية في البلاد، "تعبيراً عن تضامنها مع أهاليها الذين يرزحون تحت خط الفقر والبطالة والتهميش".
وأعلن رئيس الحركة، الباجي قائد السبسي، الذي ترأس اجتماعاً حاشداً في الحيّ، قائلاً: "إن من أولويات البرنامج الانتخابي للنداء، النهوض بمنطقة الملاسين وغيرها من المناطق المنسية في ظرف 5 سنوات على أقصى تقدير".
وتسعى "نداء تونس"، في كل مرة، إلى عقد اجتماعات شعبية كبيرة، لاستعراض قوتها الانتخابية وشعبيتها في بعض المناطق، داخل تونس أو خارجها. وعقد السبسي، السبت الماضي، لقاءاً شعبياً حاشداً في مدينة نيس الفرنسية "لكسب معركة الخارج"، أعلن فيه أنه "سيكون رئيساً لكل المهاجرين دون تمييز".
ولم تخلُ اجتماعات السبسي الكبيرة، من رسائل سياسية هامة، علاوة على الإشارة إلى "صحته الجيدة"، من خلال تتالي الاجتماعات. فقد جدّد التأكيد على أن حزبه "لن يحكم لوحده، حتى ولو فاز بالأغلبية في الانتخابات"، وأنه "سيعمل على خلق التوافق الحقيقي لا التوافق المزعوم الذي حكم البلاد طيلة الفترة المنقضية"، بحسب قوله.
وفي استراتيجية مختلفة، تسعى "الجبهة الشعبية" و"الحزب الجمهوري" إلى اعتماد "تقنية المشي على الأقدام"، والاتصال بالناس مباشرة والاحتكاك بهم، والاصغاء المباشر لمشاغلهم، بعيداً عن رمزية الصورة العمودية المسرحية التي تضع المرشح في مواجهة الجمهور. وهو تكتيك أثبت جدواه في الانتخابات الماضية حين اعتمدته أحزاب أخرى. وتسعى "الجبهة" و"الجمهوري" إلى تلافي أخطائهما المرتكبة سنة 2011.
وتعتمد "الجبهة"، في حملتها، على صفحات التواصل الاجتماعي، التي يستعملها ملايين التونسيين. كما أطلقت فكرة ترويج "رسالة الأمل.. رسالة العمل"، داعية مناضليها والناخبين عموماً إلى تناقلها والاطلاع على فحواها. كما تركّز أيضاً على ما يُسمّى بـ"معركة الخارج"، ولا تريد ترك هذا الفضاء الحيوي للأحزاب الأخرى التي تتنازعها. وفي هذا السياق، قرّر رئيسها، حمة الهمامي، التوجّه إلى باريس وليون الفرنسيتين قريباً.
ويواصل زعيم "الجمهوري"، أحمد نجيب الشابي، رحلة الألف ميل التي بدأها منذ أشهر، حين ابتعد عن الاعلام، وقرر لقاء المواطنين في المدن التونسية، والاستماع المباشر إلى مشاكلهم. وشهدت الأيام الماضية جولات جديدة في دائرة أريانة الساخنة والمدينة العتيقة بتونس، في حين تواصل الأمينة العامة للحزب، مية الجريبي، عقد لقاءات مكثفة و"تقاتل" لكسب معركة بن عروس الضارية، التي تشعل التنافس بين كل الأحزاب التي نزلت بثقلها في هذه الدائرة.
ونشر الحزب على صفحته الرسمية شعاراً لافتاً يؤشر على نوعية الفضاء الذي اختاره الحزب لمعركته الانتخابية والسياسية، عبر عنوان مباشر: "اختر بين الأمس والغد"، وهي رسالة لا تخلو من معنى سياسي واضح، يحاول أن يحدّد الهوية التنافسية للحزب في صراع تحديد المناطق.
وبعيداً عن "المعارك الكبيرة"، تشهد صفحات التواصل الاجتماعي "لسعات" سياسية ومعارك جانبية، لا تخلو من أهمية، فقد كتب القيادي في "المؤتمر"، طارق الكحلاوي، فقرة سمّاها "كوميديا"، وجّه فيها نقداً لاذعاً لمصطفى كمال النابلي دون تسميته، قال فيها: "يرشح نفسه لرئاسة الدولة بتزكيات مزورة بالمناسبة، ويقول إن بن علي عيّنه وزيراً دون حتى أن يعلم، وأنه قبِل بذلك وبقي خمس سنوات في حكومته، قبل أن يرفض المواصلة، لأنه اكتشف، فقط بعد خمس سنوات، أن حكم بن علي غير رشيد... يعني إذا أردنا وصف شخص مسلوب الارادة ومستعدّ تلقائياً للخضوع، لا نجد أفضل من هذه البيوغرافيا (السيرة الشخصية)".
وتقدّم "المؤتمر من أجل الجمهورية" بشكوى إلى "الهيئة العليا المستقلّة للإعلام السّمعي والبصري" ضدّ إذاعة "موزاييك أف أم"، أشهر الإذاعات التونسية، بسبب ما سمّاه بـ"خروج الإذاعة عن واجب الحياد وتعدّي بعض صحافييها على أخلاقيات المهنة وضوابط فترة الحملة الانتخابية، عبر تجاوز نقل الخبر والمعلومة إلى إبراز الرأي والموقف الشخصي، وهو ما يتناقض مع ما جاء بقرار "الهيئة".
كما تقدم حزب "الاتحاد الوطني الحر"، الذي يرأسه رجل الأعمال سليم الرياحي، مالك تلفزيون "التونسية"، بشكوى مماثلة ضد الإذاعة نفسها، ما يوحي بقرب انطلاق المعركة الإعلامية في الأيام الآتية.