واحدة من خصوصيات الشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس (1865 - 1939) هي دفاعه عن بلده ضدّ الإمبريالية وطغيان الثقافة الإنكليزية التي امتدت لقرون طويلة ضدّ أيرلندا وتراثها. وكما أشار إليه إدوارد سعيد في تعليق نادر يخرجُ عن المألوف بخصوص وطنيّة هذا الشاعر: "...يجب الأخذ بالحسبان أنّ ييتس شاعر أيرلندي على صلة وتفاعل عميق مع تقاليد بلاده الأصلية، وكذلك السياق التاريخي والسياسي الذي عايشه، والوضع المعقد بصفته شاعراً يكتب بالإنكليزية في فترة وطنيّة مضطربة لأيرلندا". لكن ييتس في نفس الوقت كان محافظاً ومولعاً بالميثولوجيات القديمة من التراث الأيرلندي والأوروبي القديم بشكل عام. مع الوقت، أخذ شعره يتخذُ منحى غامضاً وروحياً، مؤمناً بحياة الروح بالحياة، وما بعدها من خلال العمل النبيل والميراث الفني.
في القصيدة التي نترجمها هنا يتغنى ييتس بما "ينفعُ الناس" وما "يمكثُ في الأرضِ". الفكر له أبعاد وجذور مهمة في النفس الإنسانية، ولا يجب تعطيله أو التقليل من شأنه بأي وقتٍ من الأوقات. هو وليدُ وقته وديناميكات الحياة المستمرة، وليس فقط مرجعيات سابقة عفى عليها الزمن في كثير من الأحيان. الفكر يبني صروحاً لا تشيخ، أما الجسد والأشياء الحسيّة فكلها في الطريق إلى زوالٍ لا يعقبه أثر يمكن الإمساك به.
شكلت بيزنطة (القسطنطينية سابقاً، إسطنبول الآن)، تلك المدينة التي شيّدت على العلوم والفكر والفنون حول مضيق البوسفور، نموذجاً إنسانياً ومعمارياً مهماً، محجّاً مجازياً للعمار ولما يمكن أن تكونَ عليه الحضارات الإنسانية. ولعلّ الشعر والصوت الإنساني العميق النابع من فكٍّرٍ وحسٍّ روحيٍ صافٍ هو ما يضفي على الحياة نضارةً ومعنى تجاوزياً لمآسي الحياة والموت الذي لن يفلت من كمائنه أحد.
وإذا ما تأملنا كلمة "الإبحار" في قصيدة ييتس (نوبل للأدب 1923)، فإنها قد تحيلنا إلى الشعر العربي القديم وكيف أن كثيراً منه يقوم على الرحلة، أي على الحركة والإنشاد، على سبر أغوار الوجود من خلال البحث والتقصي والتغنّي. في "الإبحار إلى بيزنطة" إبحارٌ بالنفس علَّ هناكَ ذرىً وخلاصاً ما من أغلال الوجود الآني.
الإبحار إلى بيزنطة
(ويليام بتلر ييتس)
ليس هناك بلدٌ لرجال كبار
الشباب يشبكون يداً بيد، طيورٌ في الشجر
(وداعاً لتلك الأجيال الميتة)
أُغنياتهم التي تُرقِّصُ أسماكَ السلمون
والبحار التي تفيضُ بسمك الماكريل،
السمكُ أو اللحم أو الطير يصولُ ويجولُ
طوال الصيف،
ما تمَّ نسله، وما وُلِدَ، وما يموتُ.
عالقٌ في تلك الموسيقى الحسّية المجهولة
مجهولةٌ لصروحِ فكرٍ لا تشيخُ
ما المعمِّرُ إلا رجلٌ تافهٌ
معطفٌ رثٌّ على عصا
إلا إذا أمسكت بروحهِ يدٌ وجعلته يغنّي
ويغنّي أكثر
لكلِّ بقعةٍ رثّةٍ في ثوبه الفاني
وما هنالك بمدرسة غناء
بل صروح علمٍ تدركُ عظمةَ ذاتها
لذلك رفعتُ أشرعتي في البحار وأتيتُ
إلى مدينة بيزنطة المقدّسة.
أيها الحكماء الواقفون في نار الآلة المقدّسة
كما في الفسيفساء الذهبية على حائط
تعالوا من النار المقدسة، دوروا في الدرك الأسفل من الدائرة،
وكونوا أسياد غناءٍ لروحي.
قطّعوا أوصال قلبي، مريضُ شهوةٍ
ومربوط بحيوان يموتُ
لا يعرفُ ذاته، اجمعوني في مكيدة الخلود.
ما إن أخرج من الطبيعة
فلن تأخذ هيئة جسدي أيّ قالبٍ طبيعيٍ آخر،
بل هكذا هيئة كما يصيغها الصاغةُ اليونانيون
من ذهبٍ مصقولٍ، ومن زخرفِ الذهب
لكي يحافظوا على يقظة الإمبراطور الناعس
أو ليحركوا في برعمٍ ذهبي الغناء
لأسياد وسيّدات بيزنطة
لما جرى، أو يجري، أو سيجري.