يونس رحمون يبني جناته الداخلية في الفن

02 اغسطس 2016
عمل فني ليونس رحمون
+ الخط -
"أحب أن يكون عملي مثيرًا للتداعيات والذكريات الكونية. وأن تتوجه إبداعاتي للآخر وتمسه في ما يحمله في بواطنه. وأن تحمل قسطًا من الآخر، وفي شكلها قسطًا من وسطها وبيئتها ومتخيّلها مهما كان مصدره أو بلده". هذا ما يسرّ به الفنان المغربي المعاصر يونس رحمون، الذي صارت منشآته الفنية منذ بدايات الألفية الجديدة ترتاد مختلف عواصم العالم وتبني متخيلًا بصريًا مثيرًا للقلق والسؤال.
ينتمي رحمون إلى جيل تكون في نهاية القرن الماضي في مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، مسقط رأسه. كان ذلك الجيل محمولًا على هوى التجديد، متمتّْعًا بتكوين عميق في مجال الرسم والتصوير التشخيصي، تواقًا إلى بلورة التجربة البصرية الجديدة التي كانت رياحها العاصفة قد بدأت تهب عليهم.

عرفت الفنان في بداية العقد السابق، حين كان مهووسًا بكومات يجمعها وينضدها وينسقها ليجعلها معابر للنور. والحقيقة هذه المنشآت كانت تترجم هوسًا كبيرًا بالموت والنور، وبالمخفي والعرَضي. فيونس رحمون نشأ وتربى في بيئة تقليدية ومحافظة، تشبع بقصصها وخرافاتها وأساطيرها، وبالأخص بتعاليمها الدينية، وهو ما ظلت تفصح عنه أعمال فوتوغرافية تمثل اليدين في حالة الدعاء، وأعمال أخرى كثيرة ترشح بالإحساس الديني. هذه الدلالة وتفسيرات وتعليقات الفنان عليها جعلت البعض يسمه بكونه فنانًا إسلاميًا، فيما صنف البعض الآخر أعماله في خانة الفن الصوفي. والحقيقة أن يونس رحمون، هذا الشاب الصموت الهادئ، ظلّ منذ بداياته في المرحلة التكوينية يمتح قوته الإبداعية من الرغبة في التأمل. وقد أدرك ببساطة كبرى أن الإسلام لا يبيح التصوير (أي التجسيم) لأن الله لا صورة له. وهو ما جعل افتتانه بالتأمل والتفكُّر يتخذ أشكالًا متوالدة نابعة من محيطه اليومي كما من طُويَّته الداخلية. بل إن هذا الولع بالنور، غالبًا ما يتبدى في كون الأشكال والألوان تتخذ منذ البدء صيغة رمزية.
الفنان يونس رحمون 

لعل هذا الطابع الصوفي والتأملي في الكون، من خلال المشْهدة الفضائية البسيطة، واختيار المواد الدالة والمعبرة، هو ما جعل أعمال الفنان تتسم بالتباس مزدوج: التباس النظرة التي تعتمد على مفارقة الفكرة والمواد، والتباس تعامله مع مفهوم الإيمان والعقيدة، الذي يوجه مجمل أعماله. غير أن "العفوية" التي يتعامل بها مع تصوره ومنجزه الفني تجعله يحيل إلى هذه المفارقة بشكل موارب، من خلال الحكاية الشخصية والآثار التي تنطبع في ذاكرته وجسده.

لنقرأ كيف يفسر هوسه باللون الأخضر مثلا: "غالبًا ما يقال لي إني أستعمل اللون الأخضر انطلاقًا من إحالة إلى الإسلام. وهو أمر لا يزعجني. وأنا أكرر بأني مسلم ومرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعتقداتي. لكن الحقيقة المتصلة باستعمال هذا اللون هي أمر آخر. فهي تعود إلى قصة لا أكلّْ ولا أمل من حكيها. فحين كنت صبيًا كنت أحلم بأن أكون رحّالة كبيرًا كابن بطوطة. وهذا الرحالة في داخلي كان يحلم بجنة عدن، لا وجود فيها للمعاناة والألم. وأنا صبي، كنت مدمنًا على الرسوم المتحركة والعالم الكامل الذي ترسمه في مخيلتي. وحين استطعت السفر في ما بعد، اكتشفت أن جنة عدن تلك، ذلك المكان المثالي يوجد في بلدي ومدينتي وحيّي، في غرفتي وبالأخص في داخلي. تلك هي الرسالة التي أريد تمريرها باللون الأخضر. فجنتنا نحملها في داخلنا".

يشتغل يونس رحمون وفقا لسلسلة متواليات، كانت أولاها (2001) بعنوان "تسبيح"، حيث سيستكشف بصريًا الأعداد المقدسة والرمزية. كما سوف يبني منشأة سنة 2005 بعنوان "مركب" شكّلها من 99 قاربًا تحيل إلى الإبحار الداخلي في الأسماء الحسنى. تتوالى التركيبات الإنشائية وتتعمق أكثر فأكثر في هذه الرحلة التأملية في الإحساس الداخلي والديني، لتصل إلى أوجها في تلك المنشأة الفنية الهائلة التي شاهدتُها من سنوات قليلة في متحف بالدوحة بعنوان "زهرة - زجاج"، التي تشكل إحدى نماذج نضج الممارسة الفنية لديه. والعمل هذا، عبارة عن صْرح مكون من تشكيلات تحيل إلى هذه النبتة وإلى تفرعاتها التي تتوهج بزجاجات نور ذي لون واحد. ويكون المتفرج مدعوًا ليدخله ليعيش فيه تجربة توالد الزهور وتناسل النور وليجرب فيه العزلة الزهدية والانقطاع عن العالم.

تحيل كثير من أعمال رحمون إلى الصلاة والخشوع والزهد والتفكُّر. وهو يبنيها بطرق حركية يستعمل في كل مكون من مكوناتها، ما يمكِّن المتلقي من الإحساس المباشر بفكرة ما تنطلق من عمق تديُّني. ورغم أن الفنان يصوغ أسلوبه هذا بالكثير من الحصافة الفنية، فإنه لم يُعرف عنه أبدًا أنه نادى "بفن إسلامي معاصر". إنه يشكل جزيرة لوحدها في الحركة الفنية المعاصرة، بالنظر إلى تمكّنه الإبداعي من أدواته وخصوبة خياله وانتهاجه سبيل التركيب الواضح لمكونات عمله.
يونس رحمون - ملحق الثقافة 

في أحد أعماله الأخيرة التي أنشأها بأحد الملتقيات الإفريقية بعنوان "غرفة"، يستعيد الفنان غرفته التي تشكل بهندستها (فهي موجودة تحت أدراج سلّم البيت)، وهو أكثر أعماله الأوتويبوغرافية التي يستوحي فيه ذاكرة المكان. إذ لديه يتواشج الديني بالطفولي بطمأنينة المكان وطابعه الرحمي. وهذا الطابع هو ما يمنح البعد الديني لأعماله، طابعًا صوفيًا وتأمليًا، أكثر منه طابعًا دعويًا. فحسب ما يحكي الفنان، فإن أول علاقة فكرية له بالبعد الروحي للفن، تأتّت له من اطلاعه على فلسفة الزّنّ. وهذا التشبع والافتتان هو الذي سوف يقوده إلى الاهتمام بالطابع الصوفي الروحي الإسلامي الذي حمله في بواطنه منذ الطفولة.

تطرح التجربة الفنية الفريدة ليونس رحمون على المحلل الفني الكثير من الأسئلة، نظرًا إلى طبيعتها المنسجمة ومفارقاتها في الآن نفسه. فهي تستوحي العمق الديني انطلاقًا من "شكْلنته" ومنحه صبغة تركيبية تنبني على التكرار وعلى التحولات وعلى استعادة محددات "فكرية" مستقاة من النزوع الديني. ومن هذه العملية الفنية الاحترافية تستمد تجربته طابعها المقْنع، كما حمّى الأسئلة التي تطرحها على المتلقي ومؤرخ الفن. إذ إننا لا نجد في أعماله صورة مشخصة مرسومة إلا إذا كانت تخدم وضعية رمزية دينية (الابتهال مثلًا). واستغلاله للأشكال الرمزية يعضد هذا الأسلوب، الذي يطرح علينا الأسئلة القلقة بقدر عمق الطمأنينة الروحية التي تمنحها لصاحبها.
المساهمون