17 ديسمبر 2019
يوم في جامعة الأنبار... اشتياق وخروج من تحت الركام
ضقتُ بالأيام والرحيل فأسعفتني الوصايا والعبر.. تعبت من مطاردة الصدى حتى فقدت رنين الأسى فوق طبول المِحن، ولم يرقّ فؤاد الصخر لشتلات الحنين، وما برحتُ أسعى إليك بينما يظن كثيرون، أنني أجلس كثيراً وكلي اشتياق تحوطه الأماكن والزوايا، وما دري الجاهلون أن النطف لا تهرب من قدرة الياسمين وصيرورة الطين واستعادة الغائب وذهاب التلاشي من ضمير الصمت لسهول التجوال وجبال الشوق الشاهقة.
في حياتنا ذكريات لا تنتهي.. فالذكريات كلمة تحمل معاني كبيرة وعميقة تجعلنا نسترجع أيامنا الفائتة الجميلة أو حتى تلك الأيام التي مرت علينا بصعوبة، فمن منا لا يحمل في طيات ذكرياته مجموعة من المشاعر والأحداث، ومن منا لم يأخذه الحنين من وقت لآخر لمكانٍ أحبه، وكم منا من يتمنى أن يرجع به الزمن مرة أخرى ليعيش تلك الأحداث مع هؤلاء الأشخاص، فهناك أشخاص يصعب أن تمحيهم ذاكرتنا مهما مرت من مشاغل وأحداث قد تنسينا قضايا كثيرة.
جامعتي الأنيقة.. عدتُ إليكِ هارباً من حيرة لا أدري إلى أين منتهاها، لا شكيٌ لسفسطة، ولا عنائي الكتب، ولا سيرتي أطالس أو ترجمات، لبستُ رداء فضلك وحملت نعش النفور، فوجدتك ليس كما صوروكِ آنذاك، إنكِ انتفضتِ وخرجتِ من تحت ركامٍ قاتل، لتكوّني الحرية التي سطع مداها، وشملتِ بحنوكِ وتحنانكِ من فيكِ أو يمسكه الشوق والحنين إليكِ، فما أعز وجودك وما أطيب لقاءك وما أجملها فيك الذكريات.
عدتُ إليك وكأنكِ تقولين "تعال أيها الغريب تعال".. عندها لن يتوقف الزمن عند بداية الجسر.. لن تتشبث الكرة الأرضية بهذا النهار، بل سوف تمضي بدورانها وحركتها، دون أن تلتفت لأوهام البقاء ولن تلتفت للباحثين عن زهرة الخلود، أو الراغبين في تنميط الزمن وتأطير اللحظة كأنها صورة من الواقع.
عدتُ إليكِ زائراً يمليني الشوق مستذكراً أجمل مراحل العمر التي يمكن أن يعيشها كل شاب وفتاة وبالتحديد السنة الأولى من الحياة الجامعية، والتي حتماً تكون أول احتكاك بتلك الحياة فعلياً، فلا يمكن أن تمحى أو تُنسى بسهولة من ذكرياتهم، فمرحلة الجامعة تعتبر بالنسبة لكثير من الشباب بمثابة بداية الحياة بشكلها الجديد، وانطلاقة لبناء المستقبل، وقد يمتد هذا المفهوم لدي البعض ليعتبرها بداية الحياة عموما.
عُدتُ إليكِ.. مستذكراً أنّي أنهيت حياتي الجامعية في العام الدراسي 2008 - 2009 متخرجاً من كلية الإدارة والاقتصاد - قسم الاقتصاد، بعدما بدأتها في العام الدراسي 2005 - 2006، وكلنا يعلم أن هذه الفترة هي من أصعب الفترات التي عاشها العراق وعشناها ونحن نشاهد أرتال الاحتلال تجوب شوارع مدينتنا، وتعتقل أبناءها بكل قسوة ووحشية، كما ظهرت التنظيمات الإرهابية المتطرفة متمثلةً بتنظيم القاعدة الذي لم يسلم منه عالم ولا حتى طالب علم، لتأتي بعدها فترة الظلام الحالك، فترة الطائفية المقيتة وما رافقها من حرب أهلية أحرقت وأهلكت الكثير..
إلا أن عزيمة وإصرار أبناء الوطن كانت فوق كل تلك الأحداث، ليبزغ فجرٌ جديد، كانَ يحدونا الأمل بأن نكون قادرين حقاً على العمل والبناء، لكن حال الواقع دون طموحاتنا، فأعطي الحق لغير أهله، واستشرى الظلم والفساد، حتى نتج عنه أخطر فترة يمكن أن توصف في تاريخ البشرية، قتل وسلب وانتهاك للحرمات من قبل الجماعات المتطرفة والمليشيات المنفلتة، لا يمكن أن يصف أحدنا ذلك الشعور، فأجبرنا على النزوح من منازلنا، فسكن الكثير الخيام متوسدين تراب الأرض وملتحفين المطر والبرق، أربع سنوات كانت كافية لتدمر كل شيء.
جامعتي (جامعة الأنبار) كانت من بين الأهداف التي تضررت بالكامل بسبب الحرب، سرقت مختبراتها وأبحاثها العلمية، أحرقت مكتباتها وكنوزها البحثية، دمرت الحرب فيها كل شيء، حتى أني كنت متردداً في الذهاب إليها.. متسائلاً.. كيف سأجدها؟ كيف هي وجوه طلبتها؟ أساتذتي كيف سيكون حالهم؟ كنت خائفاً حقاً.. إلا أن الشوق والحنين قاداني إليها لأكون في حرمها أشاهد من خلفته تلك الحرب، وبينما أنا في طريقي إليها أردد (يا إلهي ماذا سأشاهد؟)..
دخلت بسيارتي عبر طريقها الحولي لأجد مخلفات المعارك شاهدة على حجم الضرر وهول الحرب، واجهات المباني المتضررة تدعو للأسى والإحباط، واصلت طريقي متوجها إلى كليتي (الإدارة والاقتصاد)، لأجد الجدران مهشمة وعليها آثار رصاص المعارك، إلا أن اللافت للنظر والأمر المفرح حقاً هو أني شاهدت عكس ما توقعت، وجدت المباني الجامعية مُزينة، كأنها في حالة فرح أو احتفال وطني أو يوم نصر أو أي شيء يمكن أن يجعلها بكل تلك البهجة، الطلبة مجتعمون، وقسم منهم وجدتهم في مأدبة طعام مشتركة في حديقة الكلية، كأنها في يوم نزهة أو سفرة عائلية إلى ساحل الخليج، يا له من أمر مفرح.
توجهت إلى داخل الكلية، وعند البوابة وجدت أستاذي في الكلية الدكتور "سعيد العبيدي" الذي كان أستاذاً لي في مادة الاقتصاد الكلي بالمرحلة الثالثة، سلمت عليه ورد السلام بحرارة، كأنه يتذكرني بعد عشر سنوات من إنهائي الدراسة، نعم.. إنه يتذكرني جيداً، أخذ بيدي وجلسنا في مكتبه وتحدثنا طويلاً، وبعدها، خرجت أتجول في الجامعة مستدركاً قول الله تبارك وتعالى (يحيي العظام وهي رميم).. سبحان الله.. بعد كل تلك المأساة خرجت جامعتي المعطاء لتنفض الركام وتبدأ عامها الدراسي بقوة لتقدم المزيد من العطاء، شعرت بالفخر حقاً.
بينما كنت أسير متجهاً إلى نادي الجامعة وجدت عددا من طلبة الكلية ومعهم عدد من أساتذتها يشمرون سواعدهم ويقومون بزراعة الأشجار والزهور في حدائق الجامعة، مبتسمين تحملهم فرحة العودة يتمالكهم الإصرار على استمرار الحياة وحبها، نعم.. إنهم يعملون كأنهم يرددون الأنشودة العراقية الخالدة (عزيزة الكاع والماي الّي يرويج).. أيّ (عزيزةٌ هي الأرض وعزيزٌ هو الماء الذي يُسقيها).
واصلت طريقي متألما تارة وسعيدا تارة أخرى، فيا لجمال وتفاؤل طالباتها وطلبتها وأساتذتها وموظفيها وكوادرها، حتى لفتت انتباهي ظاهرة جديدة تم استحداثها في باحات الجامعة.. شاهدت دواليب زجاجية عليها كتابات لم أستطع قراءتها من بعيد، حتى أخذني الفضول لأتوجه مسرعاً إليها، فلما وصلت شعرت بغبطة كبيرة، وسرور باهر مع فرحة لا أدري منتهاها، كما لو أني عثرت على شيء ثمين، فعلاً إنه أثمن شيء، أخرجت "موبايلي" والتقطت صورة لها من جميع الاتجاها..
كانت مكتبات زجاجية، منتشرة في باحات الجامعة وحدائق الكليات، فعرفت من صديقي الأستاذ "رعد خاشع" مدير إعلام الجامعة أنها مبادرة أقامها رئيس الجامعة بالتعاون مع أقسام الجامعة أطلق عليها "جامعة الأنبار تقرأ"..
لم لا تقرأ؟ فهي التي احتضنت الأديب والشاعر والكاتب والروائي والمفكر والعالم والطبيب.. لم لا تقرأ؟ وهي تحتضن طلبة جاهدوا بصبرهم وعزموا ألا تبقى الجامعة مكانا مهجورا تسكنه الظلمات الموحشة، أو ركاما تتحدث عنه الأيام والسنين.. لم لا تقرأ وهي التي أخذت أبناءها عند فترة النزوح لتفتح لهم أبوابها في مناطق نزوحهم.. شكرا جامعتي لهذا الصبر وشكراً كثيراً لهذا الاجتهاد.
مرت السنوات السوداء، تاركة ندوبَ حسرة عميقة في قلبي، وجاءت لحظات الأمل القادم لإراحة السنين من عناء بداياتها وحتى النهاية، فنضجت الفاكهة وعادت عذوبة الينابيع وأخضرت الأغصان لتمنح الشتاء فرصة التخلي عن قسوته القارسة، ولعل التلاعب بالمسميات ليس حيلة أو تسلية، ولعل تداول التجارب أهم من تداول الأسهم والمنافع المادية، فهنا تنتقل الكواكب عن مداراتها وتغير الأرض قلقها وتفتح للغيير فرصة لا تتوفر لذوي العقول المتحجرة، عقول الذين يريدون إيقاف الكرة الأرضية فوق رأسِ إبرة صدئة.
أستاذي الشاب الذي كان يدرسني أيام الجامعة، حصل على شهادة الأستاذية في الإدارة، وهو الآن مساعد رئيس الجامعة، إنه الدكتور (أثير أنور)، الذي كانَ حازما ولا يزال، التقيته بلهفة الطالب المشتاق لحديث معلمه، والصديق الذي فارق صديقه لسنوات وعاد ليجالسه ويعيد الحديث معه، لم أجد فيه ذرة من اليأس، على العكس وجدته بذات الهمة والطموح مستمداً عزيمة الشباب من تجارب السنوات الماضية، يعمل بحرص وتفان.
هكذا كان يومي في جامعتي التي اشتقت إليها كلهفة سجين أراد الحرية فوجد نفسه عند حافة الانتظار ليرى نافذة للنور، وكأن بيت العنكبوت قد أوحى لي أن الشرانق تكثر على أبواب القنوط، والحمام يطير بعيدا ولا يحط على جدران الإقصاء أو العزلة.
في حياتنا ذكريات لا تنتهي.. فالذكريات كلمة تحمل معاني كبيرة وعميقة تجعلنا نسترجع أيامنا الفائتة الجميلة أو حتى تلك الأيام التي مرت علينا بصعوبة، فمن منا لا يحمل في طيات ذكرياته مجموعة من المشاعر والأحداث، ومن منا لم يأخذه الحنين من وقت لآخر لمكانٍ أحبه، وكم منا من يتمنى أن يرجع به الزمن مرة أخرى ليعيش تلك الأحداث مع هؤلاء الأشخاص، فهناك أشخاص يصعب أن تمحيهم ذاكرتنا مهما مرت من مشاغل وأحداث قد تنسينا قضايا كثيرة.
جامعتي الأنيقة.. عدتُ إليكِ هارباً من حيرة لا أدري إلى أين منتهاها، لا شكيٌ لسفسطة، ولا عنائي الكتب، ولا سيرتي أطالس أو ترجمات، لبستُ رداء فضلك وحملت نعش النفور، فوجدتك ليس كما صوروكِ آنذاك، إنكِ انتفضتِ وخرجتِ من تحت ركامٍ قاتل، لتكوّني الحرية التي سطع مداها، وشملتِ بحنوكِ وتحنانكِ من فيكِ أو يمسكه الشوق والحنين إليكِ، فما أعز وجودك وما أطيب لقاءك وما أجملها فيك الذكريات.
عدتُ إليك وكأنكِ تقولين "تعال أيها الغريب تعال".. عندها لن يتوقف الزمن عند بداية الجسر.. لن تتشبث الكرة الأرضية بهذا النهار، بل سوف تمضي بدورانها وحركتها، دون أن تلتفت لأوهام البقاء ولن تلتفت للباحثين عن زهرة الخلود، أو الراغبين في تنميط الزمن وتأطير اللحظة كأنها صورة من الواقع.
عدتُ إليكِ زائراً يمليني الشوق مستذكراً أجمل مراحل العمر التي يمكن أن يعيشها كل شاب وفتاة وبالتحديد السنة الأولى من الحياة الجامعية، والتي حتماً تكون أول احتكاك بتلك الحياة فعلياً، فلا يمكن أن تمحى أو تُنسى بسهولة من ذكرياتهم، فمرحلة الجامعة تعتبر بالنسبة لكثير من الشباب بمثابة بداية الحياة بشكلها الجديد، وانطلاقة لبناء المستقبل، وقد يمتد هذا المفهوم لدي البعض ليعتبرها بداية الحياة عموما.
عُدتُ إليكِ.. مستذكراً أنّي أنهيت حياتي الجامعية في العام الدراسي 2008 - 2009 متخرجاً من كلية الإدارة والاقتصاد - قسم الاقتصاد، بعدما بدأتها في العام الدراسي 2005 - 2006، وكلنا يعلم أن هذه الفترة هي من أصعب الفترات التي عاشها العراق وعشناها ونحن نشاهد أرتال الاحتلال تجوب شوارع مدينتنا، وتعتقل أبناءها بكل قسوة ووحشية، كما ظهرت التنظيمات الإرهابية المتطرفة متمثلةً بتنظيم القاعدة الذي لم يسلم منه عالم ولا حتى طالب علم، لتأتي بعدها فترة الظلام الحالك، فترة الطائفية المقيتة وما رافقها من حرب أهلية أحرقت وأهلكت الكثير..
إلا أن عزيمة وإصرار أبناء الوطن كانت فوق كل تلك الأحداث، ليبزغ فجرٌ جديد، كانَ يحدونا الأمل بأن نكون قادرين حقاً على العمل والبناء، لكن حال الواقع دون طموحاتنا، فأعطي الحق لغير أهله، واستشرى الظلم والفساد، حتى نتج عنه أخطر فترة يمكن أن توصف في تاريخ البشرية، قتل وسلب وانتهاك للحرمات من قبل الجماعات المتطرفة والمليشيات المنفلتة، لا يمكن أن يصف أحدنا ذلك الشعور، فأجبرنا على النزوح من منازلنا، فسكن الكثير الخيام متوسدين تراب الأرض وملتحفين المطر والبرق، أربع سنوات كانت كافية لتدمر كل شيء.
جامعتي (جامعة الأنبار) كانت من بين الأهداف التي تضررت بالكامل بسبب الحرب، سرقت مختبراتها وأبحاثها العلمية، أحرقت مكتباتها وكنوزها البحثية، دمرت الحرب فيها كل شيء، حتى أني كنت متردداً في الذهاب إليها.. متسائلاً.. كيف سأجدها؟ كيف هي وجوه طلبتها؟ أساتذتي كيف سيكون حالهم؟ كنت خائفاً حقاً.. إلا أن الشوق والحنين قاداني إليها لأكون في حرمها أشاهد من خلفته تلك الحرب، وبينما أنا في طريقي إليها أردد (يا إلهي ماذا سأشاهد؟)..
دخلت بسيارتي عبر طريقها الحولي لأجد مخلفات المعارك شاهدة على حجم الضرر وهول الحرب، واجهات المباني المتضررة تدعو للأسى والإحباط، واصلت طريقي متوجها إلى كليتي (الإدارة والاقتصاد)، لأجد الجدران مهشمة وعليها آثار رصاص المعارك، إلا أن اللافت للنظر والأمر المفرح حقاً هو أني شاهدت عكس ما توقعت، وجدت المباني الجامعية مُزينة، كأنها في حالة فرح أو احتفال وطني أو يوم نصر أو أي شيء يمكن أن يجعلها بكل تلك البهجة، الطلبة مجتعمون، وقسم منهم وجدتهم في مأدبة طعام مشتركة في حديقة الكلية، كأنها في يوم نزهة أو سفرة عائلية إلى ساحل الخليج، يا له من أمر مفرح.
توجهت إلى داخل الكلية، وعند البوابة وجدت أستاذي في الكلية الدكتور "سعيد العبيدي" الذي كان أستاذاً لي في مادة الاقتصاد الكلي بالمرحلة الثالثة، سلمت عليه ورد السلام بحرارة، كأنه يتذكرني بعد عشر سنوات من إنهائي الدراسة، نعم.. إنه يتذكرني جيداً، أخذ بيدي وجلسنا في مكتبه وتحدثنا طويلاً، وبعدها، خرجت أتجول في الجامعة مستدركاً قول الله تبارك وتعالى (يحيي العظام وهي رميم).. سبحان الله.. بعد كل تلك المأساة خرجت جامعتي المعطاء لتنفض الركام وتبدأ عامها الدراسي بقوة لتقدم المزيد من العطاء، شعرت بالفخر حقاً.
بينما كنت أسير متجهاً إلى نادي الجامعة وجدت عددا من طلبة الكلية ومعهم عدد من أساتذتها يشمرون سواعدهم ويقومون بزراعة الأشجار والزهور في حدائق الجامعة، مبتسمين تحملهم فرحة العودة يتمالكهم الإصرار على استمرار الحياة وحبها، نعم.. إنهم يعملون كأنهم يرددون الأنشودة العراقية الخالدة (عزيزة الكاع والماي الّي يرويج).. أيّ (عزيزةٌ هي الأرض وعزيزٌ هو الماء الذي يُسقيها).
واصلت طريقي متألما تارة وسعيدا تارة أخرى، فيا لجمال وتفاؤل طالباتها وطلبتها وأساتذتها وموظفيها وكوادرها، حتى لفتت انتباهي ظاهرة جديدة تم استحداثها في باحات الجامعة.. شاهدت دواليب زجاجية عليها كتابات لم أستطع قراءتها من بعيد، حتى أخذني الفضول لأتوجه مسرعاً إليها، فلما وصلت شعرت بغبطة كبيرة، وسرور باهر مع فرحة لا أدري منتهاها، كما لو أني عثرت على شيء ثمين، فعلاً إنه أثمن شيء، أخرجت "موبايلي" والتقطت صورة لها من جميع الاتجاها..
كانت مكتبات زجاجية، منتشرة في باحات الجامعة وحدائق الكليات، فعرفت من صديقي الأستاذ "رعد خاشع" مدير إعلام الجامعة أنها مبادرة أقامها رئيس الجامعة بالتعاون مع أقسام الجامعة أطلق عليها "جامعة الأنبار تقرأ"..
لم لا تقرأ؟ فهي التي احتضنت الأديب والشاعر والكاتب والروائي والمفكر والعالم والطبيب.. لم لا تقرأ؟ وهي تحتضن طلبة جاهدوا بصبرهم وعزموا ألا تبقى الجامعة مكانا مهجورا تسكنه الظلمات الموحشة، أو ركاما تتحدث عنه الأيام والسنين.. لم لا تقرأ وهي التي أخذت أبناءها عند فترة النزوح لتفتح لهم أبوابها في مناطق نزوحهم.. شكرا جامعتي لهذا الصبر وشكراً كثيراً لهذا الاجتهاد.
مرت السنوات السوداء، تاركة ندوبَ حسرة عميقة في قلبي، وجاءت لحظات الأمل القادم لإراحة السنين من عناء بداياتها وحتى النهاية، فنضجت الفاكهة وعادت عذوبة الينابيع وأخضرت الأغصان لتمنح الشتاء فرصة التخلي عن قسوته القارسة، ولعل التلاعب بالمسميات ليس حيلة أو تسلية، ولعل تداول التجارب أهم من تداول الأسهم والمنافع المادية، فهنا تنتقل الكواكب عن مداراتها وتغير الأرض قلقها وتفتح للغيير فرصة لا تتوفر لذوي العقول المتحجرة، عقول الذين يريدون إيقاف الكرة الأرضية فوق رأسِ إبرة صدئة.
أستاذي الشاب الذي كان يدرسني أيام الجامعة، حصل على شهادة الأستاذية في الإدارة، وهو الآن مساعد رئيس الجامعة، إنه الدكتور (أثير أنور)، الذي كانَ حازما ولا يزال، التقيته بلهفة الطالب المشتاق لحديث معلمه، والصديق الذي فارق صديقه لسنوات وعاد ليجالسه ويعيد الحديث معه، لم أجد فيه ذرة من اليأس، على العكس وجدته بذات الهمة والطموح مستمداً عزيمة الشباب من تجارب السنوات الماضية، يعمل بحرص وتفان.
هكذا كان يومي في جامعتي التي اشتقت إليها كلهفة سجين أراد الحرية فوجد نفسه عند حافة الانتظار ليرى نافذة للنور، وكأن بيت العنكبوت قد أوحى لي أن الشرانق تكثر على أبواب القنوط، والحمام يطير بعيدا ولا يحط على جدران الإقصاء أو العزلة.