يوم جديد... عام جديد

02 يناير 2017
+ الخط -
I
ورقة أخيرة تسقط من رزنامةٍ لا تزال معلقةً على جدارٍ لم تدمره الطائرات. ثم يسقط الجدار. حدث هذا هناك في أمكنةٍ خوت من الحياة، ليربط عاماً مضى بعام يدخل العتبة بقدم الدم الكبيرة، بالجزمة الهائلة الملطخة بالأشلاء. رأيت هذا في صور لم تصمد على الهواء طويلاً. ذهب وقت الصور التي تبقى أطول، وربما كتب لها أن توضع في إطار. كانت الصور تتصفّح كتاب الجدران، فنرى كلماتٍ مبتورة، أطراف رسوم، أرقاماً قد تدلُّ على أيام، أو أعمار، وقد تكون علامةً متروكة لمن بقي حياً.
ليس هذا قدر كثيرين في عالمنا. ليس هذا ما هو مكتوبٌ لهم في ألواح الواقع. فهناك من يبدأ هذا اليوم بقهوة الصباح، ويفكّر أن العام الجديد يبدأ بدايةً جيدة: ها هو حي. قادر على تحريك أطرافه من دون مساعدة. عائلته إلى جانبه. لا يزال في عمله، وقادر على تسديد أقساطه. سيارته صالحةٌ للعمل، ونقله من مكان إلى آخر. قراره في العام الجديد أن ينقص وزنه باتباع حمية صحية وممارسة الهرولة في الحديقة العامة القريبة، فكل شيء على ما يرام، ولا سبب يدعو إلى التطيّر من غرابٍ وقف على السياج ونعق. فالغراب ينعق. وهذا هو صوته، ولا شيء آخر.
ليست بداية هذا العام عادلة، كما هي العادة، كما ستبقى. فثمّة، على الطرف الآخر مَنْ يرقد في المستشفى إثر انفجار، أو إطلاق نار، أو غارة طيران، لا تتوقف عن مطاردة عرق الحياة الذي يسري في جسد الإنسان المنهك من كل شيء حوله. هناك من يُطلب إليه المجيء إلى دوائر الطب العدلي، للتعرف على جثةٍ قضت في انفجار استهدف سوقاً شعبية، أو نادياً ليلياً، ومَنْ يتلقى عزاءً سريعاً في ممرات مستشفى، أو سرادق مرتجل، أو بالقرب من مقبرة جماعية.
من كثرة الموت، سقط قناعه المخيف، وبدا أكثر وداعةً ورحمةً مما كنا نفكر. لا ينبغي أن نفزع من جناح الملاك الأسود، أو الأبيض، الذي تبرّع بساعات عملٍ إضافية لرفع الأرواح المثقلة بالألم إلى علّيين. قولوا له شكراً على أريحيته، وساعات عمله الإضافية، الكئيبة، التي لم يتلق عليها أجراً، فهو قد يستحسن فعل شيء آخر في أوقات راحته.
II
عام ينقضي. عام يبدأ بلا فاصل. شعلة النار تنتقل من يد إلى يد. لا فراغ. تكتكة الساعات متواصلة. حتى بدونها يتدفق نهر الزمن في كل اتجاه. لا يحتاج ساعة يد أو حائط. هناك من يُحصي أرباحه، وهناك من يعدّ خسائره، وبين هؤلاء الأخيرين نحن أشد الخاسرين. لم نسجل أشياء يعتد بها في كتاب العالم، غير ما نحسن فعله حتى الآن، وصار متوقعاً منا. ينبغي أن يسيل دمٌ على الأرض، وتحصد أرواح، وتهدم مدن، وتتبخّر أرصدة وودائع، ويهيم ملايين على وجوههم. في عالم جشع، وغير قابل للتعلم من كوارثه، توكل لنا هذه المهام وننجزها بنجاحٍ منقطع النظير. أين على هذه الأرض دم أكثر غزارة من دمنا، وأين دمار وتشرد وتبلد تام في المشاعر أكثر مما لدينا؟ دلّونا على ذلك لنكفّ عن "جلد الذات"!
يتعيّن على "المضبوع"، في الحكاية الشعبية، أن يصطدم رأسه بحجر الكهف الذي يسوقه إليه الضبع، ويسيل منه الدم لكي يصحو على ما هو فيه. لا صحوة لـ"المضبوع"، المسوق إلى جحر الضبع، أو كهفه، بضربةٍ من ذيله المبلّل ببوله، إلا بضربةٍ يتلقاها على رأسه، بقوة، حتى يسيل منه الدم. ساعتها يفيق. وبامتلاكه وعيه هذا قد يضيع على الضبع وجبة لذيذة. بل إن الضبع لا يهجم على ضحيته، بحسب بروتوكول الحكاية، إلا إذا كانت تحت تخدير ضربة ذيله السحرية!
كم مِنْ ضبع ساقنا إلى الجحر؟
كم مرةً ضربنا رأسنا في مدخله؟
وكم سال دم؟
كم؟
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن