يوميات مغربية

06 أكتوبر 2015
ساحة جامع الفنا (تصوير: عبدالحق سنة)
+ الخط -

مراكش - ساحة جامع الفنا

في صالات الوصول، في المطارات، غير مرّة أوهمتُ، عمداً، حاملي لافتات ورقية عليها أسماء غريبة للمرتقب وصولهم؛ بأني أنا صاحب كل الأسماء.

وذلك بتقدّمي المتفرق والصبياني نحوهم بخطوات جادة وبنظرات توحي بأنني أنا الشخص المنتظر.

هذه المرة وصلت إلى مطار مراكش الحمراء التي يُنعت ناسُها بأهل البهجة رغم تردي مستوى المعيشة، ودرجة الفقر المرعبة التي يلحظها المرء قبل أن يخطفه طابع المدينة السياحي التي تعجّ أيضاً بمشردين وبمتسولين بأذرع أو أرجل مقطوعة وبسّراق.

خرجتُ من المطار دون أن أضلّل مُرتقِباً، مُتجهاً إلى وسط المدينة. صعدت أنا و شريكتي إلى مقهى له شرفة تطلّ على ساحة جامع الفنا، لا رغبة ملّحة في القهوة لكن لأجلس قرب إبريز وأشحن بطارية الهاتف.

المشهد من أعلى كان يقترح الصفنة العريضة مظلةً كانت حملتني على النزول والمشي في صهد قلب الساحة الجليل.

رحتُ أصفنُ في حركة الناس مثلما يصفن باحث في مصدر وجدَ فيه ما يدعم فرضيته. آلاف الخواتم والحليّ بأشكال مختلفة، حلقات درامية و مسرحية وأخرى صوفية توقفك؛ ذكرتني بقصيدة لأمجد ناصر يروي فيها قصة خاتم سعدي يوسف.

وقفت أمام بسطة كتب وجلت بنظري على العناوين، فشدني كتاب "التحليل النفسي" لكاترين كليمان، (تعريب محمد سبيلا وحسن احجيج)، كان الكتاب أشبه بضالّ بين كتب تحمل عناوين دينية وأخرى تافهة. في زقاق آخر، بائع خضار شبه سكران أو أن مفعول "الكيف" كان هو سبب تميّز ترنيماته الترويجية لبضاعته.

هناك تذكرتُ يوم فلحتُ في أرض بيت عمّي، كنتُ أحفرُ لأُخرجَ البطاطا، أعرّي كلّ حبة كفلقة الصابون من التراب، وأضع المُغريات على جنب للشواء.

وبمناسبة فلقة الصابون:

حملت أمّي مرّات كثيرة.

أنجبت سبعة أولاد وبنتين هم على قيد الحياة. وأجهضت مرات كثيرة.

وقالت لي لمّا كبرت: على رأسك رميتُ ولداً أبيض كفلقة الصابون. وفي وصف آخر لها ذات صباح: مكتملاً كالوردة.

كان سيكون أحلى وأطول وأعرض منك.

كان أبوك سارحاً لقطف الزيتون. يومها دفنته تحت الشجرة.

قلتَ لي واصبعك في فمكَ: حرام.

قلت لك، وأنا خجلى في غياب أبيك: غداً تكبر وتطعمنا الشجرة.

وليس بعيداً كثيراً عن بائع الخضار، بائع ملابس داخلية نسائية راح ينادي على النساء وهو يفرك قماشة السراويل الداخلية ويمطّها أمامهن بشكل بهلواني، لتوضيح الجودة.

في ساحة جامع الفنا، المكان الذي لا ينام أهله ولا تحدّ الحرارة العالية من حركتهم، بساطة ومذاق كرنفال متعدد الثقافات رغم علاّت المجتمعات المفقرة، يُعيد لك قيماً ومعانيَ أثيرة سرقتها المدن الحديثة الباردة باهرة الأضواء.

سأكتشف هناك، شعراء وناثرين وساخرين كثيرين فيّ، وما زلت أتحرّى آخرين مجهولين في ثياب غريبة.

فكّرتُ: كيف آخذ نصيبي من الشعر والنثر والنكتة، من أولئك البسطاء الذين يثيرون في المتعطّش حماسة تلوين الصحراء؟

أريد الحيلة وإيقاد فتيلة الضحك، لكن بطريقة لا تؤذيها بلاغة مكتوبة، من بائع تماثيل بسحنةٍ مرحة؛ شدّني من ثوب شريكتي لأشتري تمثال حيوان من فصيلة السنوريات.

قطار الرباط

بحقيبتين مغبرتين صعد القطار الذي سيأخذنا من مراكش إلى الرباط.

شابّ أشقر بدوي الملبس ملتح وبملابس مغبرة. كنا شاهدناه في المحطة. لم نكن نعرف أنه سيكون جار لنا في القطار.

سائح بثياب بدوية عامرة بآثار الصحراء المغربية التي يقضي فيها جل أوقاته. عاونته برفع الحقيبتين إلى المكان المخصص فوق المقاعد، فشكرني بالعربية.

كان يتكلم الدارجة المغربية والأمازيغية بشكل واضح ومفهوم لمن معي.

قال أنه يقيم في المغرب منذ قرابة سنتين كرحالة في الصحراء.

سألني:

- من أين أنت؟

- من فلسطين، من غزة، لكن أحمل الجنسية النرويجية.

- أبي نرويجي الأصل لكنه يعيش منذ عقود طويلة في أميركا. أمي أميركية.

- لابد أنك تعرف النرويجية؟

- لا أعرف شيئاً عن لغة أبي ولم أزر أوسلو.

- كيف يقولون مرحباً وشكراً وإلى اللقاء بالنرويجية؟،

- أجبته.

- هل هناك في فلسطين ألسنة متباينة كما في المغرب، وما هي اللغة الأم؟

- العربية، وبالطبع  لدينا لهجات.

ولكنه سألني سؤال سائح، وبعد أن قسّمت له فلسطين جغرافياً:

- الناس في الضفة الغربية يفهمون على الناس في في منطقة 48 وغزة؟

سؤاله الأخير أثار في داخلي حساسية سياسية.

بدا لي أنه مثقف بأمور الغير من خلال الأخبار العابرة، لكنه انزوي وراء أسئلة أوحت لي بأنه غير معنيّ إلا بما يُمتّع شبابه، وهذا من حقه.

ضغط،لآخر مرّة، بسحنته البشوشة على الجرح، بانتقاله من الحديث عن اللغة واللهجات إلى السياسة.

- الوضع بينكم وبين إسرائيل ليس على ما يرام.

- نعم، هم سلبوا أرضنا ولم تكن هناك دولة تدعى إسرائيل قبل 1948.

- أوافقك، وهزّ رأسه.

- هذا ليس مجرد رأي، أنا أتحدث عن حقيقة.

- أنا معك، والمغرب بلد جميل.

في نهاية النقاش قام وأخرج من حقيبته كيساً تبّين لي أن فيه كتلة من عجوة التمر العربي، ودعانا لنأكل معه.

لولا العجوة التي قفل بها السائح الكلام، لما حرضني شِعارٌ لكتابة ما دار بيننا من حوار.

حافلة آسفي – مراكش

في الطريق من مدينة آسفي مدينة الطيبين إلى مراكش، سيدة شابة في العشرينات من عمرها، إلى حضنها طفلةٌ بعمر أربعة أشهر وأخرى بعمر سنة وبضعة أشهر نائمة على المقعد بجانبها؛ طلبت من أحد المسافرين، وكان جالساً بمحاذاتها في الجانب الآخر من صف الجلوس، هاتفه المحمول لتتصل بأمها التي ستنتظرها في محطة الحافلات بمراكش.

اتصلت السيدة الشابة بأمها وأخبرتها بالوقت الذي ستصل فيه الحافلة إلى المحطة، وأنهت المكالمة لتبدأ بمبادرة منها بالتحدث إلى الرجل صاحب الهاتف عن قصتها.

فهي هاربة من زوجها الذي ضربها فشجّ رأسها شجة واسعة تحت غطاء رأسها، قالت والركاب يستمعون:

عصبتُ رأسي والدم يتدفق من الجرح الكبير إلى الآن، وهربت بطفلتي إلى بيت أهلي وأمي تنتظرني في محطة مراكش لتأخذني إلى بيت العائلة في مدينة بني ملال. إذاً، لدى الضحية سفر طويل.

كانت تحكي قصتها وتُسمع الناس كما لو أنها أمام طبيب نفسي.

عندها تذكرت قول الشاعر المغربي عبد الرحيم الصايل الذي كنت تركته والشاعر عبد الرحيم الخصار؛ قبل نصف ساعة من استماعي إلى قصة المرأة، حيث قال لي:

مشروع الطبيب النفسي في المغرب مشروع فاشل، فالناس على استعداد تام ليتحدثوا لبعضهم بعضاً دون هوادة بتفاصيل حيواتهم الخاصة.

كان هذا في سياق مقارنة بين الشعب المغربي والشعب النرويجي الذي يعتبر سؤال الطقس أحد أهم الأسئلة اليومية إلى جانب أسئلة وجبات الطعام التي قد لا تقود المتحاورين إلى الافصاح عن حيواتهم الخاصة.


* شاعر فلسطيني مقيم في النرويج 
دلالات
المساهمون