لما غادرت تونس، كانت الصورة الذهنية المتشكّلة عندي عن الأوضاع في ليبيا أشد سوداوية مما وجدته وعاينته. صحيح أنه متى تجولت في شوارع طرابلس أو مصراتة، وهي المدن التي زرتها خلال هذه الرّحلة، ستلحظ بيسر غياب الدولة التي تمسك بدواليب الأمور عبر جهاز أمني مُوحّد واضح المعالم، إلا أنك ستلحظ أيضًا أن الحياة مُتواصلة رغم هشاشة الأوضاع وثقل الهموم.
المُثير للإعجاب في خضم كلّ هذا، أن الليبيين نجحوا إلى حدّ كبير في إيجاد توليفة غريبة، أو فلنقل نوعًا من التسوية الاجتماعية، مُحقّقين لأنفسهم حدًّا أدنى من إمكانية التعايش المُشترك الذي لا يمكن توقعه في بلد تفوق فيه عدد القطع الحربية عدد المتساكنين بأضعاف، والذي لا تُنقص من قيمته كل الأحداث التي تندلع في كل المدن مرة بين قبائل ومرة أخرى بين مليشيات.
لكل مدينة واقع وقصة، فالهدوء الذي تجده في مدينة مصراتة كامل اليوم لن تجده في طرابلس التي متى تجولت في شوارعها خلال النهار ثم أعدت الكرة ليلًا، ستشعر أنك في مدينتين مختلفتين، خصوصًا مع تنوع المليشيات واختلاف أجنداتها والتجاذب فيما بينها الذي قد يفجّر اشتباكًا مُسلّحًا في أي لحظة دون سابق إنذار؛ ما يجعل التجول ليلًا في العاصمة الليبية دون مرافقة ضربًا من ضروب الجنون، رغم الهدوء الحذر الذي يعم المدينة أثناء النّهار.
ولأن لكل ملف مفاتيح للفهم، كان من الضروري لقاء شخصيات مختلفة بهدف الإنصات لرؤيتهم للأوضاع وتقييمهم للمسار الحالي الذي تمضي فيه ليبيا. وهو ما تم ترتيبه بعناء باعتبار الحذر الشديد والإجراءات الأمنية المشددة، خصوصًا مع تكرّر حالات الخطف.
بعد تجميع مضامين اللقاءات التي جمعتني بشخصيات سياسية وإعلامية، صار جليًا وجود نقاط التقاء بنفس حجم نقاط الاختلاف. الجميع هنا منهك من الأوضاع؛ سواء عامة الناس الذين تُصادفهم يوميًا في طوابير طويلة آملين في صرف جزء من رواتبهم التي ظلت حبيسة البنوك في ظل أزمة السيولة الخانقة، أو الشخصيات العامة التي انتظر منها الشعب الليبي عبقرية استثنائية تتجاوز بها أثر التدخل والتلاعب الأجنبي من أجل صياغة وفاق سياسي جامع ينهي حالة الاحتراب الداخلي المُستمر منذ سنوات.
رغم حالة القلق العامة والمُشتركة، يلوح بوضوح غياب البوصلة المُوحّدة التي تدفع الجميع نحو وجهة واحدة وعبر مسار واحد. فبعد أن كان المشهد منقسمًا سياسيًا بين شرق وغرب، أدّى رجوع المُؤتمر الوطني للواجهة بعد أشهر من تنصيب حكومة السّراج تنفيذًا لاتفاق الصّخيرات، لانقسام الغرب نفسه بين داعم لحكومة الوفاق وآمل في المُراكمة على ما تم تحقيقه، وبين من يُقدّر أن الأوضاع لا تُبشّر بخير مع توسّع نفوذ حفتر في الشّرق وعجز ثمرة الصّخيرات على المُضي في تنفيذ المهام الملقاة على عاتقها.
الدّاعمون لرجوع المُؤتمر للساحة يُقدّرون أن هذه الخطوة ستُساهم في تعديل الكفّة ويعتبرون أن اتفاق الصخيرات انتهى، في حين أن داعمي المجلس الرّئاسي وحكومة الوفاق لا يرون الحل خارج الاتفاق الأممي، وأنه وإن كان لا بُد من تعديل للمسار فيجب أن يكون ضمن مظلة الصّخيرات وليس خارجها.
الطّريف في الأمر، أن للعاصمة طرابلس حكومتين اليوم، حكومة السراج وحكومة الغويل، وكلاهما يُباشر مهامه والمسافة بين مقار كليهما كيلومترات قليلة. ورغم هذا الوضع الغريب، ظلّ التّدافع بينهما في حدّه الأقصى ضمن نطاق التصريحات الإعلامية، بل إن المُؤتمر العام في بيان دعوته دعا حكومة الوفاق لمواصلة مهامها.
بعيدًا عن طرابلس، تعيش مصراتة على وقع عمليّة "البنيان المرصوص" لدحر "داعش" وطردها من مدينة سرت. وبحسب المُطّلعين على تفاصيل هذه العمليّة التي انطلقت فعليًا يوم 5 مايو/أيار بأمر من المجلس الرّئاسي، تم تضييق الخناق على الدّواعش ضمن نطاق خمسين منزلا أو أقل، وكان الثّمن إلى حدود كتابة هذا المقال أكثر من 600 شهيد و3000 جريح.
ورغم اقتراب لحظة "التحرير"، يبدو مُستقبل المدينة – سرت – غامضًا، فبمُجرّد السّؤال عن تصوّر الفاعلين السياسيين أو العسكريين لكيفيّة إدارة المدينة بعد تحريرها، تكون الإجابات في مُجملها غير قاطعة وأقرب للتخمينات منها للرّؤى والبرامج الواضحة.
من بين أكبر الفوائد التي حققتها زيارة ليبيا لي كصحافي وباحث هو التأكد بالملموس أنه لا يمكن الاعتماد على آليات تحليل صالحة لكل زمان ومكان، يكفي أن تحدد لها جملة من المعطيات لتخرج بخلاصات جاهزة تختزل المشهد في لحظة زمنية ما وتشكله في ذهنك صورة مكتملة التفاصيل.
والخلاصة الثانية تتمثل في أنه لا قيمة لأي عمل صحافي أو جهد بحثي بدون عمل ميداني يعيش التفاصيل، ويستوعب الخبر ويجمع المعطى ضمن دائرة نشأته أو ولادته. قال السابقون ليس من رأى كمن سمع. وتمثل هذا القول لا يمكن أن نتحسسه إلا بعيش الفرق بين الصورة المنقولة والصورة المعاشة عندما تكون جزءا من الأحداث.
إضافة لما سبق، حملت معي لتونس توصيتين اعتبرت أنه من الواجب تبليغهما. الأولى، نبعت من أن العيش في ظل اللادولة أمر مرهق ذهنيًا، وأن أي وضع تكون فيه الدولة أضعف ما في المشهد أمر صعب ومُقلق، وبالتالي يكون الحرص على صون أركان الدولة وتماسكها فرض عين.
وأمّا الثاني فيتعلّق بإدارة الاختلاف باعتبار أن التوافق السياسي والانسجام المجتمعي وانخفاض منسوب الحقد والكراهية هو حلم من يعيش في بيئة التجاذب والتناحر والاقتتال. لي كثير من التحفظات على التوافق السياسي الحالي وربما لي تقدير خاص يرى أن توافق 2014 وتوافق وثيقة قرطاج قد انتهيا؛ لكنني لا أرى مستقبلًا لتونس خارج مظلة التسويات السياسية المؤلمة لكل الأطراف، فكل طرف مسؤول في البلاد عليه أن يكون عنصر استقرار وتهدئة، وسيكون من "الجرم" أن ننجر وراء نزواتنا الإقصائية التي لا يخلو منها إنسان.. حتى وإن استفزنا عديمو المسؤولية.
في الختام، الله يفرج على ليبيا كما يقول الليبيون، والله يحمي تونس.. وسنكون حمقى بل مذنبين إن لم نتعظ بما ابتلي به غيرنا.
يوميات صحافي تونسي في ليبيا: الوصول (1 - 3)