يوميات بيروت: ديوان يتمشّى في "الحمرا"

13 فبراير 2014
"موت الشاعر" (1954)، سيدني نولان، المتحف الوطني (ليفربول)
+ الخط -

رحيل الشعراء ليس أخباراً عاجلة. ومشيتهم على الأرصفة بيننا برؤوسهم المفصولة عاليا عن أجسادهم لا يسترعي انتباهنا عادة، كي نرفع كاميرات الـ"آيفون" ونبث مشاهدها على إحدى قنوات الـ"لايف ستريمينغ"، أو نُمَوْضعَها على "يوتيوب" بعنوان يناسب محركات بحث "غوغل"، وبـ"هاشتاغ" يليق بمغرّدين "داخل السرب".

الطريق إلى دار "رياض الريّس" لتلقّفِ آخر دواوين الشاعر المرتحل عنّا "جوزف حرب" كانت سَلسةً على غير العادة. وتناسب مستعجلاً، متأخرا عن قراءة الشعر.

لم يبدُ أنَّ كثيرين كانوا قد سمعوا بعد بوفاة "جوزف"، ما بالك بأخبار وجود الشاعر "أنسي الحاج"، والناشر "رياض الريّس"، صاحب الدار ذاتها، في المستشفى أيضا في تزامن مُمِض.

تأخُذُ "قلم واحد في ثلاث أصابع" من قَيّمةِ المكتبة. تشكرُكَ على حضورك في الموعد. تُسجّلُ اسمكَ واسم الصحيفةِ. توقّعُ على الإيصال. تنزلُ السلّمَ، مغادراً البهو العريض للمبنى. وتقرأ على قدمين:

"في

جسدِكِ

سرٌّ

رائعْ.

    فيهِ المائدةُ الملأَى فاكهةً،

ويظلُّ

الجسدَ

الجائعْ"

في طريق إيابك إلى منضدّة التحرير، حيث عليك أن تكتب، لا عنه، بل تكتبه هو. الشعر. شعر غيرك، المتوفى. (هل كنت ستشعر بالخجل من "حرب" لأنّك طلبت ديوانه كـ"ملف وورد" تسهيلا للقنص، والنسخ، واللصق الصحفي؟)

وأنت تتجاوز المارة، تكتشف أنهم كانوا الأحرص على تجاوزك بإهمال ودود. فرغم أنّك لا تنظر أمامك مباشرة، ورأسك محني قليلا إلى الأسفل، وبالكاد تميّز أصوات القلاقل العابرة من حولك بين "الصنائع" و"الكومودور"، تماما كأي منشغل بـ"أندرويده" أو "واتس أبّه"؛ لكنك تبقى خارج الجوّ وطقسه بالنسبة إلى الباقين. إذ أنّك تقرأ شاردا من كتاب مفتوح بين يديك. وهذا ليس بالضبط آخر تقليعات التسكع غير المقصود في "شارع الحمرا"، أقلّه حتى الآن.

"ولكيْ

لا أحدٌ

    يقرعُ هذا البَابَ علَيْ،

لا

بابَ لديّْ."

الرجل تخيّر ضيعته "الضائعة" في البعيد الجنوب، مستعينا بالسرطان، ليريح بيروت سبع سنوات من تأملّه. وها هي اليوم هادئة تردّ له الجميل في وفاته!

لكن، على رسلك. الزحام يعود دفعة واحدة. والسيارات تتدفق من الإسفلت المنخور. والأكفّ تجتمع كلّها لتدعك مقابض الـ"موتوسكلات"، فيخرج الجنيُّ من "الإشكمان" زائراً، هادراً برماد.

لقد كانت هدنة وهميّة. والسكون النسبي الجليل، لم يكن سوى طوارئ أمنيّة محسوبة باللاسلكيّات والرادار، كي يتيسر خروج أحد المواكب من وزارة الداخليّة، في نقطة المنتصف المائلة بين "دار الريّس"، ومستشفى "الجامعة الأمريكية".

"لا

تحزنْ،

فغداً

سوف يعود الأحمرْ،

والأزرقْ،

والأصفرْ،

وتصيرُ الأشجارُ كنائسَ للطَّيرِ، وتصبحُ

كلُّ الأوراقِ إذا ما مرَّ هواءُ الصبحِ عليها

جرساً

أخضرْ."

البداهة المرسومة أمامك ليست سوى أنّ الحياة مستمرة من قبل ومن بعد، وهذا نعرفه. أمّا أن تكون كذلك أيضاً في الـ"أثناء"، فذلك ما نعاند دوماً لنجعل منه بجهودنا الشعواء خطأً إملائياً فادحاً. لكن من دون جدوى ..الشِّعرْ.

دلالات
المساهمون