يوسف إدريس.. مقاومة الألم بالسرد

19 مايو 2020
(يوسف إدريس)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، التاسع عشر من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد الروائي والقاص المصري يوسف إدريس (1927 - 1991).


ظلّت القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث حتى خمسينيات القرن الماضي أسيرة نزعة رومانسية تراقب العالم بمنظور ذاتي يغلّب البعد الأخلاقي، ولا يلتفت كثيراً إلى بناء الشخصية وصراعها مع نفسها ومع الخارج، لتنضج على يد يوسف إدريس الذي اعتنى بالمناخات التي تدور بها أحداث قصصه وأشبعها بالتفاصيل قدر اهتمامه باللغة وانزياحاتها.

أخلص القاص والروائي المصري (1927 – 1991) الذي تحلّ اليوم الثلاثاء ذكرى ميلاده، إلى السرد بوصفه فناً يتأمل مصير البشرية وحيواتهم وليس أداة لقصّها فقط، ويختبر مساحة مركبة من الشعور والتفكير بما نفعل أو نتوهّم ضمن مسارات متعدّدة تصنع وعينا المتغيّر بالحدث.

وربما تشكّل خاتمة نصّه الأول "أنشودة الغرباء" عتبة لما كتبه خلال أربعة عقود، إذ يدوّن فيها: "نحن الهاربون من الحياة نحيا الحياة التي وإن كان يمجها المتزاحمون، ويحتقرها المتصارعون النهمون؛ وإنما هي حياتنا.. نحن أحرار فيها، نحياها في الشاطئ الهادئ الساكن، أو في القاع المظلم الرطيب".

حرية تلك الشخصيات المأساوية التي تواجه تلك القوة العظمى المسمّاة العالم، كانت المساحة الأثيرة إليه متتبعاً مصائرها وهي تتعرّض إلى التهميش والاستلاب إلى السلطة بتمظهراتها المختلفة، وتسحق مع وطأة العجز والضعف لكنها تعبّر بلغتها الخاصة عن رفضها لكلّ ما يحدث معها.

في مجموعته القصصية الشهيرة "لغة الآي أي"، يخلّق إدريس ذلك البطل الذي يقاوم بالصراخ في لقطة أو مشهد واحد تتكّثف فيه كلّ معاناته الإنسانية وتاريخه الشخصي، ويصبح بؤرة السرد ومركزه بحيث تُختزل حالاته الشعورية في تلك اللحظة، وكثيراً ما يمزج بين وجعها العضوي وبين وجع نفسي بحيث تخرج "الآي" كلفظة بليغة مجرّدة إلا من الألم؛ لغتنا الوحيدة للمقاومة.

حذق صاحب "قاع المدينة" في تشييد بنائه القصصي غير معتمد على حكاية تصل إلى ذروة توتّرها مع تطوّر أحداثها وفق حبكة معينة، لقد قدّم أحوال هؤلاء الأبطال الغارقين في تفاصيل الحياة العادية ومنحهم أقصى درجات تعبيرهم عن أزمتهم الوجودية في عريها المطلق من دون تزويق ولا تجميل.

بدت الكتابة المسرحية فضاءً مغايراً لطرح تلك التساؤلات الحرجة حول خضوع الفرد لواقعه ومحاولاته التمرّد عليه، والتي عبّر عنها في مسرحيته "الفرافير" حين يقول فرفور: "تقول لي تبقى لك إيه القوانين دي؟ ما لك وما لها؟ إنت سيد ولَّا قوانين؟ تكونشي انت شوية قوانين وخلاص، لا يا عم والله ما ألف ولا لفَّة"، فيرّد السيد: غصب عنك حتلِف".

يقارب إدريس مستويات متعدّدة من تبعية العبد لسيّده، التي تتسلسل من القيود التي تحكم مهزلة الوجود حيث القوانين راسخة ويتبدّل من ينفذونها فقط، لتبنى على نحوها المجتمعات والدول والأسر جميعها، لتصل المسرحية إلى مقولتها النهائية بأن "الدنيا لا يمكن أن تدور بلا أسياد، وأن نظام الطبقات لا يمكن الخلاص منه ولا حتى في الآخرة..".

رغم انحيازاته السياسية لليسار المصري، تفلّت صاحب رواية "الحرام" في معظم كتاباته من الأيديولوجيا، حيث فهم أن الكتابة صراع مع المجتمع ومع محظوراته، فلم تغب رؤيته النقدية تجاه التحوّلات الاجتماعية والسياسية الكبرى في مصر الستينيات والسبعينيات، لكنه بقي يحفر في فعل الكتابة نفسه في العديد من مقالاته وفي نصوصه أيضاً، ومن أهمها في هذا السياق "الرحلة" الذي يبنيها بحوار بين الأب رمز الوصاية المطلقة والابن المثقل بوصايا والده؛ حيث لا تزال صدى كثير من عباراتها يدوي لليوم. شخصيتان عاريتان على خشبة القلق والأسئلة!

المساهمون