يوسف أحمد أو السفر خارج الممْكن

14 ديسمبر 2015
يوسف أحمد، 1999، مواد مختلطة على قماش
+ الخط -
يعد يوسف أحمد من الجيل الثاني من الفنانين القطريين. بعد دراسات فنية خصيبة في القاهرة اتجه، كمعظم أبناء جيله، نحو التمثيل الحروفي للهوية البصرية. ولحسن حظه، بل لنباهته، أنه رغم إتقانه فنّ الخط، لم ينصعْ له كلية، ولم يستسلم تمامًا للعبته الماكرة. ظلّ التشكيل يشدّه إلى أفق المغامرة والبحث، فيما تدفعه رحلاته في مختلف بقاع العالم، كما تكويناته التكميلية، إلى التعمّق في مغاور التجربة التي بدأ يشق عبابها شيئًا فشيئًا.
تأثّر يوسف أحمد بالفنان العراقي الشهير شاكر حسن آل سعيد، وكان تأثّره نِعْم المسير. فالأفق الذي رسمه له هذا التبني، هو أفضل صمام أمان ضدّ التبسيطية التي كان يغرق فيها أغلب فناني جيله، خاصة الذين انغلقوا في وهاد الحروفية. الحقيقة أن التجربة الخصبة لعملاق الفن العربي الحديث ذاك، كانت مشكاة للعديد من الفنانين المجايلين ليوسف أحمد. فانطلاقه في السبعينيات من الحرف العربي لبناء تصوّر جديد للوحة، ثم تجريبيته الصوفية التي بلغت حدّ حرق اللوحات، كلّها عناصر سنعثر لها على أصداء عديدة في تجربة الفنان القطري.
كانت التقنيات المنفتحة على المعنى سبيلًا لدى يوسف أحمد، لتحرير اللوحة من الحروفية ومن هيمنتها. صار الحرف مجرد مكوّن من مكوّنات التعبير والتفكير والتأمّل. أمّا اكتشاف الفنان
للورق الصيني والياباني، فقد مثّل مرحلة مهمّة، جعلته يبني اللوحة عبر طبقات وقشور، تكاد تغني عن أي تدخل بمواد أو ألوان أخرى. حين نزور مرسمه في الدوحة، نجد في إحدى زواياه ما يشبه الدكان المليء بجميع أنواع الورق الذي يقتنيه أحمد خلال رحلاته إلى الشرق الأقصى. هذا الاكتشاف مليء بالدلالات، لأنه يعوّض الحروفية بسندها المادي الورقي، وكأنه يتخلّى عن المظهر من أجل الجسد الأصل وثرائه التعبيري.
من امتلاء المعنى إلى فراغ السند الورقي، يأخذنا الفنان إلى تجربة وجودية جديدة مهووسة بالفضاء أكثر من اهتمامها بالتواصل البصري الواضح. وهكذا ستزجّ هذه التجربة التأمّلية بل الصوفية، بالفنان في مفارقة مهمة ستنبني عليها تجربته برمتها: أعني الإقلالية minimalism من حيث هي اكتفاء بالنزر اليسير من الآثار البصرية، والموادّية باعتبارها اعتمادًا على الخامات كوسيط أصل للتعبير. بهذه المفارقة ستغدو اللوحة لدى يوسف أحمد عبارة عن عالم مركّب يكاد يكون مسرحًا له أبعاده الداخلية. فنراه يركّب فيها هنا وهناك، قطعًا دخيلة من الخشب المحروق وغيره. ونراه أيضا يثقب السند أو يحرقه، ويربطه بالحبال. وكأنه يحوّل البعد الواحد إلى بعد ثلاثي يمكّنه من امتلاك جديد للفضاء، عبر تكسير السطح التقليدي للوحة.
هكذا صار الفنان يبني تجديدية تجربته، عبر توسيع أفق اللوحة كي تسَع هوسه بالتعدّد. اللوحة هنا، تكفّ عن أن تكون كذلك. إنها تعيش تحوّلها الداخلي بعنف أشبه بالافتضاض. يتدخل الفنان في الفضاء الأولي للتعبير بعنفٍ كاسر، يبني معماره الجديد بقلق غامر وبنشوة صارخة. والحقيقة أن يوسف أحمد كان يتخلّص بهذه العملية من إرثه الحروفي السابق، الذي جعله يسير مع جموع أبناء جيله في الخليج، كي يبني لنفسه مساره الخاص في عملية تيْه في فيافي الإبداع.
وكان له ذلك. فالتجربة التشكيلية تتطور لديه عبر ما يشبه توارد الأفكار والخواطر (بمعناها في التحليل النفسي)؛ حيث إن فضاء الورق المتراكب في اللوحة، سيجعله ينتقل بشكل واضح إلى مفهوم الجدار، الذي سيؤدي إلى مفهوم الصحراء. إنها هي التجربة التي أبانت عن عمق
الفنان ونضجه الفني، ومن ثم عن تجاوزه النهائي للمحلية التي كانت تزج بها الحروفية فنه. بل إن الحروف نفسها ستأخذ بعدًا جديدًا لديه لتتحرر نهائيًا من رسوباتها.
يوسف أحمد فنان مفكر، لا يترك الأشياء تأخذ مجراها إلا بعد أن يكون قد تفكّرها، ولا يعتق أحاسيسه وفوران أسئلته إلا بعد أن تكون قد استوت في الذهن والمخيلة. هذا التمكّن نحسّه باعتباره ضربًا من التوازن الذي يحتوي العالم ويسعى إلى تملّكه. ومن ثم يمكن عدّ التجربة التشكيلية للفنان، تجربة مغرقة في المحلية من حيث إنها تتنفس غبار الصحراء الأبيض، ورمله الضبابي وزرقة البحر. وهي من ناحية أخرى تجربة منفتحة على العالمية في عشقها للترحال بالمواد والتخيلات والعشق الآسر للآخر.
ويوسف أحمد فنان شاعر لأنه يرسم القصيدة في التلاوين الدقيقة، وبين ثنايا الورق، وفي الشفافية المربكة التي تجعل من ثقل اللوحة بالمكونات، عبارة عن رحلة في خفّة الوجود. ورغم علاقته المفرطة بتربة الوجود الشخصي والمحيط به، ورغم أنه عثر في فضاء الصحراء على مبتغاه، فإنه ترك لأجنحة أحلامه الفرصة كي تتابع الانتقال والانزياح، باحثًا عن مفاوز جديدة للإبداع.
في بدايات الألفية الجديدة، في جنوب لبنان، عشت معه (ومع شلّة أخرى من الفنانين المبدعين وغير المبدعين) في معتقل الخيام تجربة رائعة، حيث كان يسعى لاستخدام المواد المحلية للتعبير عن قضية جماعية تتمثل في هوية الإنسان العربي. وفي 2008، قام بارتياد مجاهيل النحت بالفولاذ، وكأنه بذلك يرغب في تعميق تجربته الإنشائية والتركيبية السابقة. وأظنّ أن في أعماق نفسه، ثمة قدرة كبرى على استخدام المواد الطبيعية المحلية.
إنه يتحرك في كل اتجاه كي يترجم تعبيريته الفياضة. وهذا الطابع المغامر، والمتحكَّم فيه لديه، يجعله يستكنه تجربته الذاتية كما الجوانب الغامضة في وعيه ولاوعيه. فهو فنان لا يكتفي بذاته، ولا يقف عند الحدود التي ترسمها له سياقاته المحيطة. السياق لديه انسياق وجموح وتمرُّد مستمر على ما يجعل العمل الفني يقف عن حدوده.
اقرأ أيضا: معرض"هوامش وإبداع".. القديم المُهمَل في حلّة فنيّة 
المساهمون