تظهر علاقة المسرحي الفرنسي من أصل روماني يوجين يونسكو (1912 - 1994) وثيقةً بفكرة التجوال، إذ ضمّنها بشكل جليٍّ في آخر عملين مسرحيّيْن له: "الرجل ذو الحقائب" و"رحلة إلى عالم الموتى". كان أنجز العملين قبل تفرّغه للرسم وكتابة سيرته، وصدرت ترجمتهما مؤخراً بالعربية في العدد الأخير من سلسلة "من المسرح العالمي"، التي تصدر في الكويت، بترجمة نادية كامل.
يُعلن يونسكو، أحد روّاد مسرح اللامعقول، منذ بداية "الرجل ذو الحقائب" نهجه في سير العمل، إذ يقدّم بأسطر قليلة طريقة تأثيث المسرح على نحو يوحي بـ "اللامكان" من خلال إضفاء جو ضبابي وإضاءة معتمة، مُهيّئاً لظهور رجل الحقائب الساعي إلى التجوال من دون أن يُفصح عن الوجهة، أو يعطي أي تفاصيل، غير أنه يحمل حقائبه وينتظر المراكبيّ ليقلّه إلى الضفة الأخرى، حيث المكان الذي ستدور فيه الأحداث والحوارات.
هذه ليست أكثر من رؤوس أقلامٍ لأفكارٍ مبعثرةٍ لا يجمعها رابط منطقيّ؛ عجوز تخاطب فتاة "يا أمي" والأخيرة تردّ يا "ابنتي الصغيرة"، مع إشارات سريعة إلى أحداث حقيقة وقعت في فرنسا، كفيضان نهر السين عام 1910 والحرب العالمية الثانية.
ضباب يمسح تواريخَ يلقيها يونسكو في مسرحيّته، وأمكنة خرجت من حيّز الجغرافيا، ويظل الثابت الوحيد حقيبتان يحملهما "الرجل الأول" في بداية العمل قاصداً وجهةً لا على التعيين، حتى نهاية العمل الذي تتكشف فيه حقيقة واحدة، أن "الرجل الأول" لم يغادر القارب.
كل ذلك حصل أثناء انتظاره في الحلم الذي يصبح هو الثابت في حياته، بينما تغدو اليقظة طارئة: "أنت تستيقظ من وقت لآخر في هذه الحياة التي لم يكن فيها غير النوم طوال الوقت" تقول له امرأةٌ، فيجيبها: "أستيقظُ في الحلم، لن أنام بعد الآن وأنا أحلم".
في المسرحية الثانية، "رحلة إلى عالم الموتى"، يقوم الإبن "جان" بزيارة أمواته في العالم الآخر، ويتجوّل بينهم، حيث كل شيء على حاله هناك: البريد يعمل، لا نسيان لخصومات البشر العائلية، ولا الأحقاد السياسية، ليختصر يونسكو وصف عالم الأموات: "أنتم أشباحٌ تحمل ذاكرة".
في انشغاله بعرض هذه الخصومات، يُنهي يونسكو عمله بوضعهم جميعاً أمام محكمةٍ تكون والدة الشخصية الرئيسية "جان" هي القاضية فيها، حيث تصدر أحكامها على من ارتكب إساءاتٍ بحق الآخرين في العائلة في البداية، ومن ثمّ تنتقل إلى محاكمة أمراء الحرب والطوائف في رومانيا بلد الكاتب، مُدينة الحروب وجنرالاتها.
في العملين، يضع يونسكو بعضاً من المفاهيم الأساسية في حياة البشر على طاولة التشريح، كتعريف الأشخاص في العائلة بأسمائهم أو بصفتهم أفراداً فيها.
في أحد حواراته الصحافيّة، يتذكّر يونسكو فترة دراسته الإنجليزية في كتاب ثنائيّ اللغة، يحوي عبارات جاهزة لم يتعلّم منها سوى أن للغرفة سقفاً وأن الإنسان يمشي، ويشير إلى أن هذه الفترة دفعته إلى إعادة النظر في المفاهيم والعبارات الجاهزة بين البشر.