يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً

27 اغسطس 2015
ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً (Getty)
+ الخط -
غويط بحرك يا شعر
ومالوش شاطي
طبيته عيل شهم
غرقت فيه خاطي
كلامي مش مقبول
سكوتي مش مقبول
أقول تقول: اسكت
أسكت تقول: ماتقول
غلبت فيك أراضيك
وانا اللي بيك مدبوح
تصلبني فوق أراضيك
وترجع تقول: ماتبوح

حماقات كثيرة ارتكبتها خلال أربعة أعوام مضت، لم أصدق عم كمال خليل عندما أرسل لي بعد خطاب تنحي المخلوع رسالة نصها (لا تتركوا الميدان.. لا لحكم العسكر)، ثم صدقته إبان حملة تمرد عندما قال إننا بصدد ثورة، كنت أحمق في الموقفين، قلت نعم لتعديل الدستور في استفتاء مارس/ آذار 2011 ظنا مني أن معتز بالله عبد الفتاح ثوري مخلص، وأستاذ سياسة محنك، كنت أحمق أيضا، سقطت معكم جميعا في فخ المحاكمات العادلة للنظام المخلوع فلدينا قضاء نزيه لا يحب المفسدين كما أننا قمنا بثورة لترسيخ مفاهيم العدالة والقانون... إلخ، إلخ.


ظننت أن وقوف مبارك في القفص هو نهاية المطاف، صحيح كان يراودني بعض الشك في ذلك، إلا أن عدم الإيمان الكامل المتيقن بعمق تلك الدولة الفاسدة حتى النخاع وموالاة قضائها لها وشراهة عسكرها للنفوذ والمال والسطوة وكراهية شرطتها للثورة وأفعالها حماقة، سجل حافل بالحماقات، لكن أبشع تلك الحماقات كانت مشاركتي في انقلاب الثلاثين من يونيو، نعم أقول انقلاباً، ليس على محمد مرسي، وإنما كان انقلابا على ثورة يناير بكل أطروحاتها وأفكارها وتحركاتها على الأرض، وقعت مع الرفاق في فخ الابتزاز الثوري.

قلت لنفسي: الفلول معنا! قالت: يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، صدقنا أنفسنا عندما ظننا أن بهتافنا سوف نفرض صوت 25 يناير في الأرجاء وسوف يخفت صوت القبح، يا لسخرية حماقاتي، لم أزل أستجير من الرمضاء بالنار.

أي ثورة تلك التي تسير خلف توفيق عكاشة ويحمل فيها الناس أفراد الشرطة على الأعناق؟!، أي ميدان هذا الذي يوزع فيه "الباشا أبو دبورة" العصائر على الثوار؟!.. ثوار!.. سلامات يا ثوار، الوقوف في مواجهة الإخوان في ذلك الوقت لم يكن خطأ، ولكن مع من تقف، الحق أقول لكم، الوقوف مع الباطل في مواجهة الخطأ باطل.

مع كل طلعة شمس
سارينة إسعاف تفوت
وسع طريق يا مواطن
معانا وطن بيموت

لم أكن مقربا منه، كنت أعرفه جيدا، ولا يعرفني مطلقا، شاب ثلاثيني مهذب، وسيم، وبلغة كرة القدم حريف، كان يشبه حازم إمام في كل شيء، وكنت أذهب إلى مركز شباب "إطسا" خصيصا من أجله، أستمتع لمجرد أن الكرة بين قدميه، لم أكن أسمع له صوتا، تخيل؟ هذا الذي أحكي عنه رغم متابعتي له وتعقبي الدائم لخطواته لا أعرف نبرة صوته، وغيري كثيرون لا يعرفونها، لم يكن له في السياسة، ولكنه آمن بشيء ما، ربما آمن بمظلمة قوم فمات معهم، ربما آمن بقضية ما فمات دونها، قتلت قوات العسكر حاتم الحلفاوي في مذبحة الحرس الجمهوري، أيها المبرر للظالمين على طول الخط، لو أعطيتني عقلك وعقل كل الذين على شاكلتك لن أصدق أن حاتم كان يحمل سلاحا، شخص أعرفه جيدا على نحو ما أسلفت ذكره كيف أصدق فيه عفن ألسنتكم؟

يا بلادي مالك كده
بدرك تمام خاسف
دمي يسيل لك فدا
وأنا اللي أقول آسف
دمي اللي في التحرير
ماتاخدش عزاه
رايد لك التحرير
وانتي اللي مش رايداه

أول مرة رأيته كانت عندما رفع شقيقه عبد الرحمن صورته حين ارتقى شهيدا يوم مذبحة رمسيس، كأنه واحد من أبناء عمومتي، نفس الملامح، نفس البشاشة، وهي ذاتها نظراتهم التي تنم عن أمل بائس، لكنه مثل حاتم، آمن بقضية ما فمات دونها، في ذاك اليوم المشؤوم خرج محمد رغم جراحه التي لم تلتئم، بلهفة الأب لا بحماسة الثوار، يبحث عن ولده المختفي منذ مذبحة رابعة العدوية، فعاد محمولا على الأعناق إلى مثواه الأخير، أين يكمن مقتلك الذي نالوا منك فيه يا ابن عمي؟ جسد أدماه الرصاص؟ أم قلب أدماه الخوف على مصير قرة العين؟

وفر عليك يا موت
مشاريبك السادة
جاي تاخد إيه يا موت
ده أنا مت بزيادة
جاي تاخد إيه يا موت
ده أنت بقيت عادة

نحن نعرف الموت جيدا، ورغم أن أكبرنا لم يزل في منتصف الثلاثينيات إلا أننا نتحدى غيرنا أن يكون أكثر دراية بالموت منا، قبل الثلاثين من يونيو كان الموت مقدسا، عملا رائعا وعظيما، شهداء ثورة يناير، شهداء ماسبيرو، شهداء محمد محمود، شهداء القصر العيني، لم نتألم لهم، كنا نودعهم مبتسمين، ونفاخر بهم غيرنا.

لم نشعر أن الموت مؤلم إلا بعد الثلاثين من يونيو، عندما أصبح الموت بلا ثمن، عندما أصبح الموت الرخيص الملاحق بتهم الخيانة والإرهاب عملا اعتياديا نختص به وحدنا، مؤلم جدا أن تفقد عزيزا ثم تتسول جثمانه من قاتليه، ولا عزاء لك من أحد إلا ذويك، فغيرهم بين مصفق للقاتل وبين خائف من أن تطاوله تهمة الإرهاب.

لو لم تكن 30 يونيو لما حدث كل ذلك، لو لم تكن 30 يونيو لما عجت السجون بالمظاليم، لو لم تكن 30 يونيو لما هرب يوسف طالب الهندسة إلى بلاد السودان تاركا هنا مستقبله وأحبته، لو لم تكن 30 يونيو لما حكم عسكريا على ناصر حامد وأيمن حامد ورفاقهما وغيرهم بالسجن 15 عاما في جريمة لم يقترفوها.

لست مع عودة مرسي، وأخاف مثل عموم من الناس من سيناريو سورية والعراق، ولكني أفتقد أحبتي، أفتقد صوتي، أفتقد قصائدي، أفتقد الأمن والسلام، الأمن الذي أفتقده غاية ليس سبيلها قمع السلطة للناس، الأمن هو أن أقول: لا، دون خوف من تهم الخيانة والإرهاب، الأمن هو أن أنام دون خوف من زوار الليل، دون خوف من رصاصة أخرى تصيب عزيزا على القلب في القلب، أو ربما تصيبني أنا شخصيا، أيا كان مطلق الرصاصة وصفته واسمه، إرهابياً أو شرطيأ، أبا فلان، أو الرائد فلان.

ستسألني عن الإرهاب؟ لا أعلم، لا أدري، فقط أؤمن بأن كل من أعرفهم من شهداء ومسجونين ليسوا إرهابيين، فأي إرهاب تحارب؟ أما عن متلازمة إما أنا أو الفوضى، فقد أجبت عنها يوم خطاب الملعون المخلوع، بينك وبين الفوضى نحن، لا نريدك ولا نريد الفوضى، ننشد أمناً بلا ظلم، وحرية بلا فوضى، هل هذا صعب؟ لا أسألك أنت، وإنما أسال عموم الشعب.

أيها الشعب الراقص على رفات الأحبة، ننشد أمنا بلا ظلم، وحرية بلا فوضى، ما يضيركم في ذلك؟ لقد فقدناهم من أجلكم، وأنتم رقصتم من أجل بطون تشبع بجوعكم، من أجل قاض وضابط ورجل أعمال اجتمعوا على أن تبقوا في درك المجتمع الأسفل.

هذا الرئيس ليس منكم، هذا الضابط ليس منكم، هذا الرجل المتخم بالمليارات ليس منكم، هذا القاضي ليس منكم، هذا الإعلامي، كلهم يزدرونكم، أنتم في أعينهم رعاع لا تستحقون إلا ما يفيضون به عليكم إن فاض، الوطن بثرواته بمعالمه الجميلة لهم ولأبنائهم، ليس منكم إلانا، ليس لكم أكثر من الذي لنا، فقر وظلم وظلام، وإن ضجرتم لكم مثلنا السجن والقتل إن حكمت، هذا ما جناه علينا انقلاب يونيو على الثورة.

وختاما، لست نادما على صياحي في وجه الإخوان، ولكني أتحسر على بقائي حيا إلى زمن أخاف فيه من الصياح، زمن يموت فيه الناس غدرا، ويعتقلون ظلما، زمن تكلم فيه الفتاة أباها من خلال مخطوطة خلف قفص زجاجي، زمن يفقد فيه الطفل أباه ثم يعير به دون جريمة، زمن يرقص فيه الناس للقاتل ويغنون له تسلم الأيادي، زمن يسمى فيه القبح ثورة.. فيا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.

(مصر)
المساهمون