أن تموت صباح يعني أن نتذكّر مجدّدا أنّ "صورة" لبنان الذي "لا يموت"، مثل طائر الفينيق، أو مثل صباح، انتهت إلى الأبد. تلك الصورة التي جهد لبنان في "تكوينها" حول نفسه، مثل جلد أو "كريمات" إعلامية لحماية نفسه. صورة "النهوض" من تحت الأنقاض في بداية التسعينيّات، وانطلاقة مشروع "إعادة إعمار" بيروت، ولبنان كلّه.
صورة حاول اللبنانيون تسويقها في الدول العربية والعالم. وكان الإعلام وسيلتهم، بالأغنيات والبرامج الفنية، ورقص الفتيات نصف العاريات على عواميد تلك البرامج.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، حاول اللبنانيون مجدّداً، لكنّ الصورة كانت قد تخلخلت كثيراً. وبعد أحداث 7 مايو/أيّار 2008 هَجَرَ العرب لبنان، مرّة جديدة، وعادت بيروت مدينة للخوف والسلاح، لا تشبه المدينة التي أحبّها العرب واختبأوا فيها وخبأوا أحلامهم في مقاهيها، وتعلّموا الأمل في صحفها وإعلامها.
حاول اللبنانيون مجدّدا في عامي 2009 و2010، بحكومة موحّدة، أن يسوّقوا صورة "لبنان الجميل"، بالإعلانات السياحية وشبكات البرامج التلفزيونية الجديدة، وبعض الحفلات والمهرجانات الفنية هنا وهناك، صيفاً وشتاءً.
حاول اللبنانيون تعويض غياب "الإبهار" اللبناني، و"الحكاية" اللبنانية المتجدّدة، ببرامج الكوميديا السياسية السوداء بين نهاية التسعينيّات وبداية الألفية الجديدة. ثم كانت برامج الكوميديا الجنسية بين عامي 2010 و2012. علّ لبنان يستعيد صورته من خلال الإيحاءات الجنسية. صورة "الجرأة" و"الاختلاف".
ثم جاء الربيع العربي وبدأت الانقسامات تتجدّد. ما هي إلا أشهر وبدأت الثورة السورية، ليتحوّل لبنان إلى باحة خلفية، ثم إلى مركز إيواء للهاربين والنازحين، وشيئاً فشيئاً بات لبنان جزءًا من المشهد العسكري السوري: بلا رئيس جمهورية، بمجلس نوّاب في ولاية ثانية "ممدّدة" ومشكوك في شرعيتها، وبأجهزة أمنية متفكّكة ومتصارعة، وجيش مُتّهَم بالانحياز، لننتهي في عام 2014 بأن بات اللبنانيون أسرى التسابق على فضائح الطعام الفاسد، وأخبار المخطوفين اللبنانيين، مدنيين وعسكريين، في سورية. وبات لبنان بلداً "أمنياً" لا علاقة له بالفنّ أو الفرح أو التجدّد. يشبه سورية واليمن والعراق وفلسطين والبحرين، في أنّه ساحة حرب، وإن أقلّ عنفاً، هنا أو هناك.
حتّى الفنّانين اللبنانيين، وانحيازهم إلى نظام الإجرام الأسدي، أو إلى "حزب الله" من جهة، وإلى الشعب السوري من جهة أخرى، ما عادوا يجذبون اهتمام اللبنانيين.
كان لا بدّ من أن تموت صباح، خلال هذه اللحظة الفنية – السياسية، في لبنان والعالم العربي، لحظة بدا أنّ الفنّ كلّه بات في حالة موت سريري، بانتظار خروج السياسة من غرفة الإنعاش. ولحظة بدا أنّ تلك "الضحكة"، التي توازيها صباح، وتمثّلها، وتعيشها، وتقدّمها، ماتت، أو هي تُنازِع.
فنحن نشهد "موت" فكرة "الفرح" التي حملتها صباح وقدّستها ووزّعتها علينا. فكرة تحدّي الموت، وهزيمته. فكرة تحدّي الزمن وقواعد العمر وتوالي الأقدار. ونشهد موت الابتسامات، وموت الأغنيات الجميلة، وموت الفنّ الجميل والأصيل.
وبالتزامن نشهد موت "فكرة" لبنان، كجامع للأقليّات، وكحامٍ لها، في هربها من "وحول الشرق" ومستنقعاته، إذ إنّ من يحمل السلاح اليوم هو من يحكم، وليس هناك من "عقد اجتماعي". ولبنان أصلاً ما عاد "فكرة"، بل صار "جبنة" منذ زمن طويل، يتقاسمها الأقوياء من أهله. ثم تحوّل اليوم إلى "ثكنة" وساحة ملاكمة، تتصارع فيها وعليها وانطلاقاً منها، قوى إقليمية تريد السيطرة على العالم ونشر ظلامها، على اختلافها.
وفي الفنّ نعيش زمن "عُري" ميريام كلينك، "الفنانة" بحسب بعض الإعلام، وزمن "صُراخ" علي الديك، الفنان استطراداً. نعيش زمن الرؤوس المقطوعة، في الأمن والسياسة، في الفنّ كذلك، وفي الفرح.
ترحل صباح، فعلا هذه المرّة، بعد مئات "الموتات" الإعلامية الكاذبة، والشائعات الكثيرة عن موتها. وربما يمكن القول إنّ لبنان كذلك، بات على طريق "الموت الحقيقي"، بعدما شُبِّهَ لنا كثيراً أنّه مات، وعاد فغافلنا، بنهضة من هنا، أو حقن حياة وإنعاش من هناك.
تموت صباح، فعلاً، ولبنان الذي وُلدَت قبله، في عشرينيّات القرن الماضي، ربّما يكون قد مات قبلها، حين بات بلا حدود، وبلا مؤسّسات، وبلا "عقد اجتماعيّ" يجمع سكّانه وأهله...