قارئ الكتاب، الذي وقعته صاحبته أخيراً في رام الله، سيرى كم هي قريبة منه تلك الذكريات عن يافا، وسيكون من الطبيعي أن يكتشف مكانه وعدوه وخسارته. أهمية الكتاب تأتي من تشابه سيرة الفلسطيني العادي، في التهجير واللجوء، في الحنين والطموح. فإسماعيل شموط يشبه هشام شرابي، والاثنان يشبهان تمام الأكحل، خصوصاً حين طرقت باب بيتها، لتمنعها مستوطنة يهودية من دخوله. المفارقة أن تلك المُحتلة فنانة تشكيلية حوّلت البيت إلى مرسم.
بحسب حسين البرغوثي فالتفاصيل هي السر، وفي كتاب أبو عياش نخوض رحلة في التفاصيل، التي يجري من خلالها تشكيل كل شيء. ومن التفاصيل الصغيرة نتعرّف على كلبيْ والد الفنانة الأكحل، اللذين أطلق سراحهما ساعة سقوط المدينة. كما نوّم أولاده منعلين أحذيتهم. عمتها التي بقيت في يافا ستين سنة من دون أن يعرف أحد من العائلة أنها حية، إلى حين لقائها بإسماعيل. تنهال كل هذه التفاصيل لتشكّل رواية عن مدينة كان أهلها يربون الكلاب في البيوت في دلالة على الرفاهية، وكانت تصدّر كل سنة برتقالها إلى أوروبا.
كان بإمكان الكاتبة أثناء تسجيل الشهادات لتمام الأكحل وشهلا الكيالي ومثال القمبرجي وغيرهم، وضع تفاصيل تلك الشهادات في سياق تاريخي للمدينة وتطورها، ناهيك بأنّ الشهادات المنقولة كانت كما هي، أقرب إلى المشافهة منها إلى الكتابة، وبدون التفات للقيمة السردية التي احتوتها.
بهذا المعنى، يبقى الكتاب نصاً تسجيلياً نقل عن شهادات شفوية لأبناء يافا المهجرين، والذين عادوا إلى زيارتها بـ"تصاريح زيارة" في زمن الاحتلال.
دقات القلب أعلى من صوت الجرس
"في عام 1976 عدتُ إلى يافا.. لا يمكن أن أحدد المشاعر والعواطف والأثر النفسي الذي حل بي.. تصارعت جميعها في داخلي لحظة أطلت يافا.. وعلى مرمى نبض القلب كان البيت.. بيتي الذي قاوم وبكل ما أوتي، واستُصدر أمر ببقائه، ها هو ماثلٌ أمامي، إنه شهر أيار من العام 1976... وصلنا إلى مدخل البيت الرئيس.. باب صغير يفضي إلى بيت عمي معين قدورة السقا، إلى اليسار كانت دقات القلب أعلى من صوت الجرس المثقبت على الباب.. قلت بالإنجليزية: لن تعرفينني، افتحي الباب، أنا خلقت في هذا البيت وقد جئت لزيارته إن لم يكن لديك مانع!". (من شهادة أنور السقا)
أنكرها للوهلة الأولى
"بعد تسع وأربعين سنة عدت للبلاد، قررنا في البدء التوجه إلى مدينة اللد، مسقط رأس زوجي إسماعيل ومرتع حلمه. وما أن أشرفنا على المدينة حتى أنكرها للوهلة الأولى، إذ اختلطت معالمها عليه! وما أن اتضحت لديه المعالم حتى انتابه الانفعال وبدأ يدلّل على المواقع التي عهدها والتي ما زالت على عهده بها وقت أن سرق المحتل مدينته. في تلك الأيام كان عمر إسماعيل سبعة عشر عاماً وعاد إليها اليوم. وكمن مسته لوثة ونكوص، بدأ يسير في الشوارع ويصيح "وصار يحكي مع حالو وإحنا نلحقو ومش ملحقين"، ونطلب منه أن يتروى ويهدأ رأفة بقلبه". (من شهادة تمام الأكحل)