منذ 2010، يعيش ياسر عبد اللطيف (مواليد 1969) - الذي صدر آخِر كتبه وأطول دواوينه الشِعرية "قصائد العُطلة الطويلة" عن "الكتب خان" في القاهرة مؤخّراً - في مدينة إدمنتون، عاصمة مقاطعة ألبيرتا الكندية، أو كما يُسمّيها هو "سيبيريا الغرب". لكنّه، ورغم درجات حرارة تصل إلى 40 تحت الصفر أحياناً، لا يعاني من البَرْد.
في إدمنتون، يَفتقِر صاحب "قانون الوراثة" (رواية قصيرة، ميريت 2002) و"يونس في أحشاء الحوت" (قصص، الكتب خان 2011) و"في الإقامة والترحال" (سيرة، الكتب خان 2014) إلى حِراك ثقافي نشِط أو واسع النطاق، كما يفتقر إلى دِفء وعِزوَة أبناء "كاره" ومُحبّيه الكثيرين في مصر، لكنه لا يشكو الوحدة.
وسواء أنتج القصة أو المقال الأدبي أو القصيدة، وكلّها بالنسبة إليه ضُرُوب من السرد الغنائي الذي لا يسعى إلى تجاوز الواقع أو الخروج على شروطه بل يَطرحه كما هو بأشكال تتراوح ما بين الحِدّية والسخرية ونادراً ما تخلو من مَسْحَة حنان، لا يكتب مُترجِم رسائل فنسنت فان غوخ إجمالاً إلا عن القاهرة أو بالرجوع إليها، بالذات حي المعادي - كان عنوان فيلمه الوحيد، وهو وثائقي قصير كتبه وأخرجه بالتعاون مع نادر هلال، "مواطن صالح من المعادي" - حيث نَشَأ ومازال يَحتفِظ بسَكَن دائم. لكن لا يجتاحه الحنين…
ولعل "الكاتب الذي يقترف الشعر أحياناً" كما سبق وعَرَّف نفسه، يعاني من كل ذلك في غربته فِعلاً؛ البرد، والوحدة، والحنين، لكنْ ليس قَدْرَ معاناته مما يُسمّيه "فقدان الجغرافيا"؛ ذلك الوَلَع بالتجوُّل والاكتشاف بل والتورّط حد الإحباط والخطر عبر مسارات مدينة تَنتَمي إليها، مهما أصبحتْ تلك المدينة، نتيجة لإقامتك فيها، طاردة، ومهما أشعرتْكَ باللاجدوى والاغتراب. وكأنّ معنى الوجود وغايته هو طَوَاف مساحة بشرية وإن كانت الرغبة في تركها مُلِحّة ودائمة فلا يمكن مغادرتها بَعْدُ.
يقول السندباد في بداية حكايته: "وقد خطر ببالي السفر إلى بلاد الناس"، لكنّ بلاد الناس تلك - قبل أن تكون أوطاناً جزافية أو مُتبناة يدفع إليها ترحال يتبع الإقامة - هي في الحقيقة ربوع مدينة واحدة مترامية والأقمار التي تدور حولها شَمَالاً وجنوباً. إنها المساكن والمقاهي والطرقات الرابضة في نَفسِك أنتَ.
في "بداية الحُمّى"، يكتب ياسر عبد اللطيف: "بينما كانت حرارتي ترتفع/ كنت أتجوّل في دهاليز نفسي/ مُمَيِّزاً من بينها:/ دهاليز المدرسة، دهاليز الجامعة/ دهاليز مترو الأنفاق/ دهليز مقهى ركس، ومقهى فتحي، وممر زهرة البستان/ دهاليز حياتي التي قضيتها في الدهاليز".
ولعلّ جولة الدهاليز تلك، الجولة الليلة التي يشير إليها عنوان إحدى أقوى وأشهر قصائده - وهو دوران مجاله الأكثر وقعاً داخل النَفْس وإن لم تُصرّح النصوص بذلك - هي مفتاح كتابة، على تنوّع أجناسها وتباين لحظات ظهورها، لا تعدو أن تكون كارتوغرافيا للروح، أو مُمارسة عمليّة للجغرافيا ذاتها التي أفقده إياها العيش في محيط لا يخصّه.
تنتهي "جولة ليلية" على صورة لذلك الجانب السحري من الخريطة الذي، دون أن ينفصل عن بيئته الموغلة في خصوصيّتها، يعقد الصلة ليس مع الجهاز الشعوري للقارئ وحده وإنما مع الكون كلّه:
وفي المنطقة المظلمة من معرفتك بالمدينة
في ما وراء الشارع الذي خِلتَ صغيراً أن العالم ينتهي بعده،
إشارة مرور قديمة وشبح شرطيّ مُسنّ على مفرق تجتازه لأضواءٍ ناعسة في ليل نديّ
هناك… مسرح منوعات مَنسيّ
حيث الفَقَرات تُعرَض على خشبة ضيّقة
اصطفّ المتفرجون في مُدرّجين على جانبيها
أنت متفرج وناشط بالكواليس
تُراوِح وجهةَ نظرك بين المكانين
من إشارات لحيوات صاخِبة
ووُعود بمَلذّات مُستدامة
إلى حيث السلامة
أهون من الندم
الذي هو في
خِفّة رغاوي البيرة.
رغم خُلّو متنه من التواريخ، يمكن النظر إلى الكتاب الجديد ذي الغلاف الأشبه بكُرّاس من ثمانينيات القرن الماضي والتاريخين 1991-2009 تحت الاسم والعنوان كتنويع على ثيمة الأعمال الكاملة أو المختارة، حيث يتضمّن مجموعتي قصائد سبق صدورهما. ففضلاً عن “جولة ليلية” (ميريت، 2009) وسبع "قصائد حائرة طائرة" كُتبت في السنوات السابقة عليها ولم تُنشر معها، هناك أول ما نشره الكاتب على الإطلاق: "ناس وأحجار" (1995)، والذي تعود أقدم قصائده إلى سنة 1991.
لقد طُبعت مجموعة "ناس وأحجار" على حساب الكاتب في السنة والمطبعة ذاتهما التي طُبعت فيهما المجموعة الأولى لأحمد يماني (1970) "شوارع الأبيض والأسود". في وقت ما، كان اقتناء الكُتيّبين الأبيضين أشبه باعتناق عقيدة شعرية جديدة تقوم على الهرطقة النثرية وصراحة الاعتراف. إنهما ضمن أهم لافتات ما سيُسمّى في ما بعد "جيل التسعينيات"، ومن ثم ينطويان على لحظة تاريخية حقيقية.
بدت نصوص "ناس وأحجار" وقتذاك تجريبية ومحيّرة، في مكان ما بين القصة القصيرة جداً أو الأقصوصة الثمانينية والقصيدة المتحرّرة من فروض الوزن. لكنّ نصاً مثل "كيشوت" يبدو اليوم سلساً ومستساغاً إلى الدرجة التي تجعله كلاسيكياً:
أستطيع أن أبتدع دُعابات يبكي الحَجَر لسِمَاعها
وأكرّر أنني أستطيع.
ولأنني رَحيم كإله ناقص،
سأتعمّد غموضها حتى يتَعذّر فهمها على غيري وسأكتفي بتخيُّل بكائه أمام ضحكي المتَخيَّل بدوره
وسيكون ذلك كافياً لتطهيره أمام عيني،
فأراه نظيفاً من ضعفه،
وأعرف أن ضعفي أقوى مما يتخيلون.