ويسألنا البرادعي... من أين نبدأ؟!

07 مارس 2019
+ الخط -
تتزامن سلسلة تغريدات "البوب" مع موجة عارمة من الهجوم على جماعة الإخوان تطمح إلى الخلاص من حضورها نهائياً، بدأت المرحلة الأولى بتشويههم وإسقاطهم وإقصائهم عن الحكم والسياسة عبر التحالف مع شيطان بدرجة جنرال، ثم تبعتها المرحلة الثانية بمحاولة غسل أيدي وأقدام "الخونة"، وتذويب عظام الجماعة في حمض الاصطفاف عديم اللون، ذي الرائحة المهيجة للمشاعر الثورية دون الرجوع لتاريخ أو لمحاسبات أو لمراجعات، أو حتى لاتفاقات يبنى عليها ما هو آت.

لست أخشى من تسمية الخيانة باسمها، فمن يتآمر مع من ثار الجميع ضده لوأد ثورة أهدرت فيها دماء طاهرة لا يجوز أن ندلّـله ونلقبه بالمعارض!

البرادعي لا يسأم لعب دور حكيم الثورة، لعبه في يناير، وفي يونيو، وها هو يعيد الكرّة، ولا عجب ألّا يمل أنصاره تكرار مشاهده، فالرجل أتقن الدور.

طار البرادعي كما طار من قبل، ليحدثنا من سفينة فضائه عبر سنينه الضوئية عن الكرامة والإنسانية والعلم والحرية والعيش الكريم، يرسل لنا في تغريداته الإلكترونية حكايات الحوريات وقصص الجنيات الطيبة، يستثمر عالميته وربطة عنقه مجدداً ليسحر ألباباً ترفض أن تعيش في جلباب هويتها، يسبغ القداسة على صنم ديمقراطية أكله، وينادي بحق اختلسه ومصداقية فقدها، وسلمية كدرها، وإنسانية دهسها بدبابة وهرب وتركها تنزف.


يمنح الشباب عصارة خبرته عن علم لم نجد له أثراً في أدائه السياسي أثناء فترة وجوده بعد ثورة مصر، ثم يسألهم، أتذكرون يناير؟ ارفع رأسك فوق أنت مصري! وأسأله أنا.. أتذكر أنت؟!

البرادعي الذي يعطينا دروساً في الديمقراطية، هو من غاب عن مشهد تنصيبه رئيساً لمجلس رئاسي في ميدان التحرير بعد الثورة، بناءً على شهادة الكاتب وائل قنديل، تركهم كمن منّى عروساً بالزواج وفرّ؛ هو من أراد إرساء دستور جديد للبلاد في وضع رخو بعد التنحي يشابه تماماً وقت "سلق" دستور 2014، خشية أن يشكل الطرف الإسلامي فيه ثقلاً إذا ما سار الأمر بشكل ديمقراطي عن طريق انتخاب مجلس شعب، تنتخب منه لجنة إعداد دستور، فحشد فريق "لا للتعديلات الدستورية" ليثني الناس عن الموافقة عليها.

جاء البرادعي من أجل تغيير الدستور، حتى إنه أطلق اسمه على حزبه الذي أسسه ليرمز لأهدافه التي هبط مصر من أجلها، وعندما خابت، بدأت معركته لهدم المعبد.

البرادعي الديمقراطي السياسي الحكيم، رفض حضور الجلسات الحوارية في عهد أول رئيس شرعي منتخب، للتفاوض وإيجاد مخرج سياسي يجنب البلاد مزيداً من الخراب.

يقول الأستاذ أسامة فتحي حمودة مساعد الدكتور عصام الحداد، الذي حضر اجتماع الرئيس مرسي بالبرادعي وعرض عليه فيه رئاسة الوزراء، إنه رفض المنصب بترفع وقال لمرسي: "إنكم يا دكتور مرسي كإخوان تمثلون القوة السياسية الوحيدة على الأرض في مصر، ولا يوجد قوة أخرى سوى الجيش وحتمًا سيحدث بينهما صدام وساعتها ولكي تتجنب مصر الأهوال فلن يكون هناك حل إلا تسليم البلاد بكاملها لي، فلماذا أقبل هذا المنصب في حين أن البلد كله سيكون في يدي".

البرادعي لم يكلف نفسه عناء بناء جبهة معارضة حقيقية، يخوض بها انتخابات مجلس الشعب الجديد، كانت أمامه فرصة ذهبية بعد تدهور شعبية الإخوان في هذا الوقت، كان بإمكانه أن يغير الدستور، بل أن يسحب الثقة من الرئيس نفسه، ولكنه عوضاً عن ذلك، كون جبهة إنقاذ مما سماه فشلاً لا يطاق، وروّج للأمر عبر صداقته الطويلة لجون كيري وزير خارجية أميركا، ثم خرج على شاشات التلفاز في أثناء حكم من اتهمه بالفاشية والديكتاتورية ليدعو الشعب للنزول لإسقاطه ولم يتعرض له أحد بسوء.

يحدثنا الرجل وكأن من شهدوا أحداث الثورة ماتوا وتحللوا؛ ينهانا عن ترديد الإفك والأكاذيب ثم يأتيه!!

يتساءل بعد مرور ست سنوات من الانقلاب، كمن يقتل القتيل ويشيع جنازته: "إذا كان صحيحاً، وأرجو أن أكون مخطئاً، أن الدكتور مرسي ونجله والدكتور البلتاجي وكثيرين غيرهم قد مُنعت عنهم الزيارة لمدد تتراوح بين شهور وسنوات، فإننا نكون أمام وضع بشع أخلاقياً وقانونياً لا يمكن فهمه ولا يمكن أن يستمر! مَن المسؤول وهل سيحاسب ولماذا الغضب من تقارير منظمات حقوق الإنسان".

يكتشف الدكتور اليوم أن هناك معتقلين ويستنكر ذلك، بل يتمنى أن يكون مخطئاً، فيبدو متردداً على ما أظن، لم تكن نبرة حديثه بهذه الرقة عندما اتهم مرسي!! يشجب الرجل منع زيارتهم فقط، ولا يستنكر سجنهم ولا أحكام إعدام مسيّسة اتخذت ضدهم، ولم يفعل ذلك وهو من أودعهم خلف القضبان، لا يجد الرجل لمنع الزيارة مخرجاً أخلاقياً ولا قانونياً، ولكنه يجد ألف مخرج لتبرير انقلاب على نظام أتى عبر صناديق انتخاب بتصويره على أنه ثورة شعبية، وللتنصل من ضلوعه في مذابح العسكر، وكأنه يفترض بنا أن نقتنع أن رجلاً مثله بتاريخه السياسي الطويل لا يعلم ماذا تصنع الجيوش حين تنقلب على رئيس وأنصاره!!.. ولا يعرف الفرق بين الثورة والانقلاب!

يسألنا الرجل من أين نبدأ؟.. ونجيب: أو لم تكن يناير بداية تستحق الحفاظ عليها، أم أن الأمر برمّته لعبة إذا ما شعرت قرب نهايتها بأنك على وشك الخسارة تقلب الطاولة لتبدأ من جديد؟!
7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر