"حبّك الشيء يعمي ويصم" ربما يكون هذا أهم المآخذ التي يجدها من يطالع ذلك الكتاب الممتع، الذي ألّفه بوريس جونسون عمدة لندن الحالي في الذكرى الخمسين لوفاة تشرشل، تحت عنوان "عامل تشرشل: كيف صنع رجل واحد التاريخ؟"
لقد دفع إعجاب المؤلف بشخصية ونستون تشرشل، إلى أن يرفعه إلى مصاف الفاتحين العظام، بل يرى أن إنجازاته نمط فريد لم يحققه أحد من قبل، والإمبراطورية التي كان يدير شؤونها لا تدانيها أية إمبراطورية سابقة! وفي الوقت نفسه، يبرر جونسون لتشرشل معظم أخطائه، ويدافع حتى عن عيوبه الخَلْقية (كالتلعثم واللثغة) والخُلُقية (كمعاقرته الخمر، وإدمانه السيجار، وغرابة أطواره)، وقلما انتقد مثالبه، بل كان حريصا على أن يخفي كثيرا منها، وأن يزين صورته مستعينا بمختلف آليات التلفيق والتنميق والتزويق، ومستعينا بكل صور البلاغة الرصينة والألفاظ الأنيقة، وخفة الدم. ولكنه حينما حاول أن يفعل ذلك أخفق في أحيان كثيرة، فحطّ من صورة قدوته من دون أن يدري. ويكفي للتدليل على ذلك أنه قارن بين تشرشل والجُبْن الفاخر! وجعله علامة تجارية عالمية! فنزل بذلك من مكانة القائد العظيم! والأهم من ذلك، والأخطر أيضا، هو أن المؤلف يرى نفسه امتدادا طبيعيا لتشرشل، وأن نقاط الالتقاء وخطوط التشابه بين شخصيتيهما كثيرة، فكلاهما مارس الصحافة، وخاض غمار السياسة ممثلا لحزب المحافظين.
كما يعتقد بوريس أن آراءه ومواقفه من كثير من القضايا تتماثل مع نظرة تشرشل لها (أو هكذا يظن!)، وهو الأمر الذي حرص على إبرازه وتضخيمه، حتى يكاد يقول لنا في كتابه: (إنني تشرشل وتشرشل أنا)! متناسيا أو متغافلا أن هذه المقارنة لا جدوى من ورائها، فشتان بينه وبين تشرشل، وأين الثرى من الثريا؟! وقد يدفع ذلك القارئ الحاذق إلى أن يخرج من قراءته للكتاب بأن تشرشل الذي يتحدث عنه بوريس جونسون ليس تشرشل الذي عرفه المؤرخون، ولكنه شخصية أخرى صنعها خيال بوريس!
وعلى الرغم من ذلك، فإن الكاتب وكِتابه نجحا في اقتناص أفئدة القراء، فصار من أكثر الكتب مبيعا. وكم من مئات الكتب التي صدرت عن حياة تشرشل، ولكنها لم تأتِ بمثل هذه النكهة التي أضفاها بوريس على سيرة هذا العملاق. فما دوّنه عنه مختلف، فللعاطفة تأثيرها. والكتابة العاطفية لا تبعث على الملل أو السأم. وبوريس يصوغ عبارات كتابه مستخدما مفردات المحب الولهان، وعين المحب عن العيوب كليلة.
وقد رسم بوريس باقتدار كثيرا من ملامح شخصية تشرشل. وتطرّق إلى تفاصيل كثيرة ودقيقة، ليجسم لنا عالم التناقضات الذي كان يعيش فيه ذلك الرجل منذ أن كان صبيا بليدا يكره الرياضيات ويعاقبه معلموه على ضعف تحصيله! وفي الوقت نفسه، فإن الفتى لم ينهزم أمام نفسه أو زملائه أو مدرسيه، بل أصرّ على التألق والتغلب على ما به من عيّ للانطلاق إلى الأمام. فلجأ إلى تصميم طقم أسنانه الصناعية لمساعدته على الخطابة بشكل سليم. وحرص على إعداد خطبه بعناية، لكي لا تكون فقط مصدرا لإلهام الجمهور وتجنب التلعثم.
وكما يوحي عنوان الكتاب، فإن بوريس جونسون حاول استكشاف العديد من الجوانب المميزة لشخصية تشرشل التي جعلت منه الرجل الذي قاد الأمة البريطانية إلى النصر في أحلك ساعات الحرب، وحفظ لها روحها وقوتها الداخلية التي مكنتها من الثبات أمام قوة النازي الغاشمة.
إن تشرشل، كما وصفه جونسون، هو رجل المواهب المتعددة، فقد كان صحافيا شهيرا، وخطيبا قديرا، ومؤلفا كبيرا، حتى أنه حصل على جائزة نوبل للآداب. كما كان رائدا في مجال الرعاية الصحية، والتعليم، والرعاية الاجتماعية. وفضلا عن ذلك، كان أيضا رجل التناقضات المتعددة، فقد اشتهر بقدرته على الجمع بين احتساء النبيذ والطعام، والسهر حتى وقت متأخر من الليل لصنع القرار. وكان يحبذ القصف الاستراتيجي بالقنابل على نطاق واسع، ولكنه في الوقت ذاته يكره الدمار الذي تخلفه الحروب، ويسخر من السياسيين الذين لم يتعرضوا لأهوالها.
وقد اهتم جونسون ببيان الجهود التي بذلها تشرشل حين كان أميرا للبحرية البريطانية، إبان الحرب العالمية الأولى، حيث أسهم في تطوير الطيران البحري (حتى أنه ألقى دروسًا في الطيران بنفسه)، وبناء سفن حربية جديدة كبيرة. والأكثر من ذلك، طور تشرشل منظومة الدبابات، واستخدم النفط بديلا للفحم في تلك السفن.
ويرى بوريس أن تشرشل هو أعظم شخصية في تاريخ العالم. فقد أسهم إسهاما رئيسيا في تغيير الخريطة الكونية الحديثة، لاسيما إنشاء أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكسب معركة الحرب الباردة مع الروس.
ولعل أهم فصول الكتاب، بالنسبة لنا كعرب، هو الفصل الحادي والعشرون. فقد استعرض فيه المؤلف الدور الذي قام به تشرشل في رسم حدود الشرق الأوسط، حينما كان يحتل منصب وزير المستعمرات في الحكومة البريطانية. فقد كانت له إسهاماته في تحقيق وعد بلفور، وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو، وفي تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل، وتأسيس دولة العراق من مزيج غير متجانس من السنة والشيعة والأكراد، وإنشاء المملكة الأردنية الهاشمية، ومساندة الملك عبد العزيز في إنشاء المملكة العربية السعودية. كما يشير إلى أن مصطلح الشرق الأوسط نفسه هو من وضع تشرشل.
ولا يكتفي بوريس جونسون بإيراد مواقف ومبادرات تشرشل إزاء قضايا الشرق الأوسط، بل يضمّن كتابه مواقفه هو نفسه من قضايا الشرق الأوسط. أليس تشرشل هو مرآته؟
(كاتب مصري)
لقد دفع إعجاب المؤلف بشخصية ونستون تشرشل، إلى أن يرفعه إلى مصاف الفاتحين العظام، بل يرى أن إنجازاته نمط فريد لم يحققه أحد من قبل، والإمبراطورية التي كان يدير شؤونها لا تدانيها أية إمبراطورية سابقة! وفي الوقت نفسه، يبرر جونسون لتشرشل معظم أخطائه، ويدافع حتى عن عيوبه الخَلْقية (كالتلعثم واللثغة) والخُلُقية (كمعاقرته الخمر، وإدمانه السيجار، وغرابة أطواره)، وقلما انتقد مثالبه، بل كان حريصا على أن يخفي كثيرا منها، وأن يزين صورته مستعينا بمختلف آليات التلفيق والتنميق والتزويق، ومستعينا بكل صور البلاغة الرصينة والألفاظ الأنيقة، وخفة الدم. ولكنه حينما حاول أن يفعل ذلك أخفق في أحيان كثيرة، فحطّ من صورة قدوته من دون أن يدري. ويكفي للتدليل على ذلك أنه قارن بين تشرشل والجُبْن الفاخر! وجعله علامة تجارية عالمية! فنزل بذلك من مكانة القائد العظيم! والأهم من ذلك، والأخطر أيضا، هو أن المؤلف يرى نفسه امتدادا طبيعيا لتشرشل، وأن نقاط الالتقاء وخطوط التشابه بين شخصيتيهما كثيرة، فكلاهما مارس الصحافة، وخاض غمار السياسة ممثلا لحزب المحافظين.
كما يعتقد بوريس أن آراءه ومواقفه من كثير من القضايا تتماثل مع نظرة تشرشل لها (أو هكذا يظن!)، وهو الأمر الذي حرص على إبرازه وتضخيمه، حتى يكاد يقول لنا في كتابه: (إنني تشرشل وتشرشل أنا)! متناسيا أو متغافلا أن هذه المقارنة لا جدوى من ورائها، فشتان بينه وبين تشرشل، وأين الثرى من الثريا؟! وقد يدفع ذلك القارئ الحاذق إلى أن يخرج من قراءته للكتاب بأن تشرشل الذي يتحدث عنه بوريس جونسون ليس تشرشل الذي عرفه المؤرخون، ولكنه شخصية أخرى صنعها خيال بوريس!
وعلى الرغم من ذلك، فإن الكاتب وكِتابه نجحا في اقتناص أفئدة القراء، فصار من أكثر الكتب مبيعا. وكم من مئات الكتب التي صدرت عن حياة تشرشل، ولكنها لم تأتِ بمثل هذه النكهة التي أضفاها بوريس على سيرة هذا العملاق. فما دوّنه عنه مختلف، فللعاطفة تأثيرها. والكتابة العاطفية لا تبعث على الملل أو السأم. وبوريس يصوغ عبارات كتابه مستخدما مفردات المحب الولهان، وعين المحب عن العيوب كليلة.
وقد رسم بوريس باقتدار كثيرا من ملامح شخصية تشرشل. وتطرّق إلى تفاصيل كثيرة ودقيقة، ليجسم لنا عالم التناقضات الذي كان يعيش فيه ذلك الرجل منذ أن كان صبيا بليدا يكره الرياضيات ويعاقبه معلموه على ضعف تحصيله! وفي الوقت نفسه، فإن الفتى لم ينهزم أمام نفسه أو زملائه أو مدرسيه، بل أصرّ على التألق والتغلب على ما به من عيّ للانطلاق إلى الأمام. فلجأ إلى تصميم طقم أسنانه الصناعية لمساعدته على الخطابة بشكل سليم. وحرص على إعداد خطبه بعناية، لكي لا تكون فقط مصدرا لإلهام الجمهور وتجنب التلعثم.
وكما يوحي عنوان الكتاب، فإن بوريس جونسون حاول استكشاف العديد من الجوانب المميزة لشخصية تشرشل التي جعلت منه الرجل الذي قاد الأمة البريطانية إلى النصر في أحلك ساعات الحرب، وحفظ لها روحها وقوتها الداخلية التي مكنتها من الثبات أمام قوة النازي الغاشمة.
إن تشرشل، كما وصفه جونسون، هو رجل المواهب المتعددة، فقد كان صحافيا شهيرا، وخطيبا قديرا، ومؤلفا كبيرا، حتى أنه حصل على جائزة نوبل للآداب. كما كان رائدا في مجال الرعاية الصحية، والتعليم، والرعاية الاجتماعية. وفضلا عن ذلك، كان أيضا رجل التناقضات المتعددة، فقد اشتهر بقدرته على الجمع بين احتساء النبيذ والطعام، والسهر حتى وقت متأخر من الليل لصنع القرار. وكان يحبذ القصف الاستراتيجي بالقنابل على نطاق واسع، ولكنه في الوقت ذاته يكره الدمار الذي تخلفه الحروب، ويسخر من السياسيين الذين لم يتعرضوا لأهوالها.
وقد اهتم جونسون ببيان الجهود التي بذلها تشرشل حين كان أميرا للبحرية البريطانية، إبان الحرب العالمية الأولى، حيث أسهم في تطوير الطيران البحري (حتى أنه ألقى دروسًا في الطيران بنفسه)، وبناء سفن حربية جديدة كبيرة. والأكثر من ذلك، طور تشرشل منظومة الدبابات، واستخدم النفط بديلا للفحم في تلك السفن.
ويرى بوريس أن تشرشل هو أعظم شخصية في تاريخ العالم. فقد أسهم إسهاما رئيسيا في تغيير الخريطة الكونية الحديثة، لاسيما إنشاء أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكسب معركة الحرب الباردة مع الروس.
ولعل أهم فصول الكتاب، بالنسبة لنا كعرب، هو الفصل الحادي والعشرون. فقد استعرض فيه المؤلف الدور الذي قام به تشرشل في رسم حدود الشرق الأوسط، حينما كان يحتل منصب وزير المستعمرات في الحكومة البريطانية. فقد كانت له إسهاماته في تحقيق وعد بلفور، وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو، وفي تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل، وتأسيس دولة العراق من مزيج غير متجانس من السنة والشيعة والأكراد، وإنشاء المملكة الأردنية الهاشمية، ومساندة الملك عبد العزيز في إنشاء المملكة العربية السعودية. كما يشير إلى أن مصطلح الشرق الأوسط نفسه هو من وضع تشرشل.
ولا يكتفي بوريس جونسون بإيراد مواقف ومبادرات تشرشل إزاء قضايا الشرق الأوسط، بل يضمّن كتابه مواقفه هو نفسه من قضايا الشرق الأوسط. أليس تشرشل هو مرآته؟
(كاتب مصري)