08 نوفمبر 2024
... ونتحدّث عن العنصرية ونشتم أصحابها
قبل أعوام، كنت برفقة صديق مثقف من السودان الشقيق وزوجته الأوروبية، نتمشّى في شارع في مدينة سورية يتباهى سكانها بأنهم سليلو واحدةٍ من أقدم الحضارات. حين رأينا بائع فول سوداني (نسميه فستقاً في سورية)، يقف على ناصية الشارع، اقتربنا منه لنشتري منه. رحب بنا البائع جداً، خصوصاً حين شاهد سيدة أجنبية معنا، ثم التفت إلى صديقي السوداني، قائلاً له بعد أن اكتشف أنه يتكلم اللغة العربية، حين طلب منه نصف كيلو فول سوداني: "إنتو بتسموه فول؟ نحن منسميه فستق العبيد لأن أصله من السودان"! ابتسم صديقي بهدوء، وترجم لزوجته ما سمع. ضحكنا من السذاجة والتلقائية اللتين جعلتا البائع لا يكترث إلى لون بشرة صديقي قبل كلامه... ما قاله البائع وقتها كان عادياً بالنسبة له، فنحن في بلاد الشام فعلاً نسمي الفول السوداني فستق العبيد، هكذا تعوّدنا.
ليس الفول السوداني استثناء من هذه التسميات، هنالك حلوى شهيرة في بلاد الشام، قطع كيك كروية معمولة من الكاكاو الغامق، ستجدها لدى كل بائعي الكيك، تحت اسم "راس العبد"، وهي محببة لدى الأطفال الذين يشترونها دائماً وهم يرددون اسمها. وكل أنواع الحلوى السوداء تحمل هذا الاسم أو أسماء تدل على المعنى نفسه. نقولها في بلاد الشام بلا تفكير مسبق في معناها، كجزء من المنطوق اللغوي الشعبي السائد، والمتكرّس في اللاوعي الجمعي. ننتبه أحياناً إلى المعنى العنصري فيما نقول، حين تتكثف لحظة الوعي وتخزنا كالدبوس!
ثمّة أهزوجة كنا نرددها دائماً في طفولتنا، حينما كنا نذهب للعب في المراجيح، خصوصاً في الأعياد، تقول من ضمن كلماتها: "علي ما مات، خلف بنات، بناتو بيض شكل العفاريت، بناتو سود شكل القرود". لم نكن نفهم ما معنى هذه الكلمات، ولا من هو علي المقصود في الأهزوجة. قيل، بعد زمن طويل، إنها أهزوجة طائفية، غير أن ما يلفت فيها هو العنصرية المزدوجة ضد البنات وضد السود، فعلي، أياً كان المقصود، تتم السخرية منه لأنه لم ينجب سوى بنات، فما بالكم والبنات سود؟!
.. لنعترف بأن العنصرية التي لدينا مركبة ومؤلفة من طبقات عدة، حين بدأت الثورة السورية، وانتشرت في الأرياف، ظهر مصطلح "ثورة أبو شحاطة" لدى مجموعة من المؤيدين للنظام من "بورجوازيي" دمشق وحلب، ومن يسكن فيهما من العائلات المقرّبة للنظام، وهما المدينتان اللتان تربطهما بالريف المجاور لهما، وبالمدن الصغيرة، علاقة متوترة إلى حد كبير، مزيج من الطبقية والمناطقية لم تكونا خافيتين على أحد. الطبقية هنا نوع من العنصرية مثل المناطقية. وظهرت أيضاً بعد الثورة، في المقابل، نزعة تقول عن نساء الشريحة الاجتماعية المؤيدة للنظام إنهن "خدّامات"، وهو ليس اختلاقاً، إذ إنه فعلاً، وبسبب الفقر، عملت كثيرات من بنات ريف الساحل وباقي الأرياف الفقيرة خادمات في بيوت المدن الغنية. وهذا أيضاً عنصرية، لا تقل عن العنصرية المقابلة التي تقول عن نساء بيئات الثورة إنهن "مجاهدات نكاح متخلفات"!
.. وماذا عما يقال عن "الشوايا" و"الحوارنة"؟ ماذا عما يقال وقيل عن الأكراد، وإنهم ليسوا أكثر من "بويجية"؟! قال هذا مثقفون سوريون في سياق الخلافات "الثورية"، كما شتم مثقفون سوريون الرئيس الأميركي السابق، أوباما، بوصفه "عبداً أسود"، أو كما شتم بعضهم الرئيس الفرنسي الحالي بوصفه "زوج العجوز"! بأي عينٍ نتضامن مع من يتعرّض لعنف عنصري؟ مسؤول رياضي عربي كان يشتم أحد اللاعبين، ويصفه بأنه لا يصلح لأن يكون أكثر من "بواب عمارة"، واللاعب أسمر البشرة، ومعظم بوابي العمارات في الدولة العربية هذه من منطقة تتميّز بلون أبنائها الغامق.
هل رأيتم كيف يتم التعامل العربي مع العاملات في المنازل، الآسيويات والأفريقيات، وحتى بنات البلد نفسه ممن اضطرتهن الظروف للعمل في خدمة البيوت؟ هنا تحديداً يتجاوز العرب العنصرية إلى مراحل أكثر تعبيراً عن الشناعة.
.. قالت لي يوماً شاعرة عربية، تسخر من كاتب كان يتودّد إليها: "لا يمكن تمييز وجهه في الظلام".. الكاتب لونه أسمر غامق.
.. نردّد "يا حرام" كثيراً، ونحن نتحدّث بشفقة عن الفقراء والمحتاجين. وحتى وقت قريب، كنت كلما شاهدت فيلماً عن أفريقيا وما حدث فيها أشعر بالشفقة. والشفقة ليست سوى تجلٍّ شديد الوضوح لعنصريتنا التي نحاول إخفاءها عبر التضامن مع رجل أسود مات تحت قدم رجل أبيض.
ثمّة أهزوجة كنا نرددها دائماً في طفولتنا، حينما كنا نذهب للعب في المراجيح، خصوصاً في الأعياد، تقول من ضمن كلماتها: "علي ما مات، خلف بنات، بناتو بيض شكل العفاريت، بناتو سود شكل القرود". لم نكن نفهم ما معنى هذه الكلمات، ولا من هو علي المقصود في الأهزوجة. قيل، بعد زمن طويل، إنها أهزوجة طائفية، غير أن ما يلفت فيها هو العنصرية المزدوجة ضد البنات وضد السود، فعلي، أياً كان المقصود، تتم السخرية منه لأنه لم ينجب سوى بنات، فما بالكم والبنات سود؟!
.. لنعترف بأن العنصرية التي لدينا مركبة ومؤلفة من طبقات عدة، حين بدأت الثورة السورية، وانتشرت في الأرياف، ظهر مصطلح "ثورة أبو شحاطة" لدى مجموعة من المؤيدين للنظام من "بورجوازيي" دمشق وحلب، ومن يسكن فيهما من العائلات المقرّبة للنظام، وهما المدينتان اللتان تربطهما بالريف المجاور لهما، وبالمدن الصغيرة، علاقة متوترة إلى حد كبير، مزيج من الطبقية والمناطقية لم تكونا خافيتين على أحد. الطبقية هنا نوع من العنصرية مثل المناطقية. وظهرت أيضاً بعد الثورة، في المقابل، نزعة تقول عن نساء الشريحة الاجتماعية المؤيدة للنظام إنهن "خدّامات"، وهو ليس اختلاقاً، إذ إنه فعلاً، وبسبب الفقر، عملت كثيرات من بنات ريف الساحل وباقي الأرياف الفقيرة خادمات في بيوت المدن الغنية. وهذا أيضاً عنصرية، لا تقل عن العنصرية المقابلة التي تقول عن نساء بيئات الثورة إنهن "مجاهدات نكاح متخلفات"!
.. وماذا عما يقال عن "الشوايا" و"الحوارنة"؟ ماذا عما يقال وقيل عن الأكراد، وإنهم ليسوا أكثر من "بويجية"؟! قال هذا مثقفون سوريون في سياق الخلافات "الثورية"، كما شتم مثقفون سوريون الرئيس الأميركي السابق، أوباما، بوصفه "عبداً أسود"، أو كما شتم بعضهم الرئيس الفرنسي الحالي بوصفه "زوج العجوز"! بأي عينٍ نتضامن مع من يتعرّض لعنف عنصري؟ مسؤول رياضي عربي كان يشتم أحد اللاعبين، ويصفه بأنه لا يصلح لأن يكون أكثر من "بواب عمارة"، واللاعب أسمر البشرة، ومعظم بوابي العمارات في الدولة العربية هذه من منطقة تتميّز بلون أبنائها الغامق.
هل رأيتم كيف يتم التعامل العربي مع العاملات في المنازل، الآسيويات والأفريقيات، وحتى بنات البلد نفسه ممن اضطرتهن الظروف للعمل في خدمة البيوت؟ هنا تحديداً يتجاوز العرب العنصرية إلى مراحل أكثر تعبيراً عن الشناعة.
.. قالت لي يوماً شاعرة عربية، تسخر من كاتب كان يتودّد إليها: "لا يمكن تمييز وجهه في الظلام".. الكاتب لونه أسمر غامق.
.. نردّد "يا حرام" كثيراً، ونحن نتحدّث بشفقة عن الفقراء والمحتاجين. وحتى وقت قريب، كنت كلما شاهدت فيلماً عن أفريقيا وما حدث فيها أشعر بالشفقة. والشفقة ليست سوى تجلٍّ شديد الوضوح لعنصريتنا التي نحاول إخفاءها عبر التضامن مع رجل أسود مات تحت قدم رجل أبيض.