ولكن ليس بهذا الشكل

28 سبتمبر 2018
(القاهرة، 2016، تصوير: خالد دسوقي)
+ الخط -

كلّما عدتُ إلى مصر، بعد غياب طويل أو قصير، راعني بمجرّد أن تطأ قدمي أرض المطار، مظهر أو آخر من مظاهر المجتمع الطبقي. موظّفون صغار في انتظار موظّفين كبار، شخص يحمل جوازات لمجموعة مهمّة من الناس ويقوم بتشطيب إجراءات الجوازات بالنيابة عنهم ليخرجوا من المطار قبل غيرهم، أو مستخدمون لدى شركات السياحة - هم في الأغلب خرّيجو جامعة - لم يجدوا وظيفة أفضل من أن يحملوا اسم شركتهم ليراها الركاب العائدون. إلخ.

بمجرّد أن شرعت في وضع حقائبي في الأوتوبيس الذي يحملنا من المطار إلى موقف السيارات، انشقّت الأرض عن شابَّين سرعان ما أصبحا ثلاثة ثم أربعة يتنافسون على مساعدتي أنا وزوجتي على حمل الحقائب. ثم بمجرّد أن وقف الأوتوبيس وشرعت في إنزال الحقائب، انشقت الأرض مرة أخرى عن أربعة شبّان آخرين يتنافسون على العمل نفسه.

لاحظت أن المتنافسين لا يبدو عليهم ما كان يبدو قديماً على الشيّالين في مصر؛ فثيابهم الآن أفضل، وسنّهم أصغر، ولكن الذل البادي على وجوههم أفظع ممّا كان يبدو على وجوه الشيّالين القدامى.

اعتراني كالعادة في مثل هذا الموقف شعور بالذنب، لم أكن أشعر به طوال وجودي بالخارج. فالعائد من دولة أوروبية أو من الولايات المتّحدة، أو حتى من أي بلد عربي آخر، لا يصادف مثل هذا الموقف أبداً. نعم، هناك بالطبع الغني والفقير، ولكن ليس بهذا الشكل. نعم. يُمكن تقسيم المجتمع هناك إلى طبقات، ولكن ليس هناك مثل ما تراه في مصر منذ أول لحظة وصولك إليها، من مزايا يحصل عليها علية القوم، ومذلة الطبقة الدنيا.

المجتمع الطبقي قديم جدّاً، سواء في مصر أو في العالم، ولكنه لم يكن دائماً يسبّب مثل هذا الشعور بالذنب من ناحية، ولا بكلّ هذه المرارة من ناحية أخرى. فحتى وقت قريب جدّاً، ظل علية القوم يعتقدون أنهم يستحقّون ما يعيشون فيه من نعيم، إمّا لأنهم من جنس مختلف، وإمّا لأنهم من عائلات ممتازة، وإما حتى لمجرد أنهم يملكون أطياناً زراعية واسعة. وفي معظم الأحوال، كانوا يعتبرون هذا الثراء والتميّز عن غيرهم دليلاً على رضا الرب عنهم. والطبقة الدنيا ظلّت حتى وقت قريب تقبل هذا التفسير وكأنه من المسلّمات: "نعم نحن من جنس رديء، أو وُلدنا من عائلات وضيعة لا تملك جاهاً ولا أرضاً؛ ممّا يدل على غضب الله علينا لسبب أو لآخر".

حدث خلال المائة عام الماضية ما بدّد هذه الأفكار أو أضعفَها بشدة في الناحيتين: فلا الجنس ولا اللون ولا السلالة ولا الدين يمكن أن يُبرّر هذا التميّز الطبقي. والمسألة كلّها ظلم في ظلم. والذي زاد الأمر سوءاً أنّ كلّ شيء أصبح معروفاً: كل الفقراء يعرفون بالضبط كيف يعيش الأغنياء، إن لم يكن بسياراتهم الفارهة في الشوارع، فمن خلال شاشة التلفزيون، بل يعرفون أن علية القوم لم يحصلوا على كل هذا الترف إلّا بالنصب.

كان لا بد أن يقوى الشعور بالمرارة في جانب، وبالذنب في الجانب الآخر، حتى لو تظاهر الجميع بغير ذلك.

"أنا أعرف جيداً كيف حصلت على أموالك أو منصبك".. هكذا يقول القابعون في أسفل السلم في أنفسهم، بينما يعرف الآخرون، وإن لم يفصحوا عن ذلك قط، أنهم في الأساس محتالون لم يحصلوا على مراكزهم إلا بالقوة أو بالنصب.

في مناخ كهذا، ليس غريباً أن تنمو أشياء كثيرة مما نضجّ منه بالشكوى: أنواع جديدة وغريبة من الجرائم، للتحرش الجنسي والتعصب، والتشنج الديني، إلخ...


* من كتاب "ماذا حدث للثورة المصرية؟"، (دار الشروق 2012)

دلالات
المساهمون