ولادة خارج الرحم

09 ديسمبر 2014

)

+ الخط -

لو كان علماء الإخصاب والوراثة درسوا جينات الزعامات العربية، لكفّوا أنفسهم عناء البحث عن وسيلة لإنجاح عملية التلقيح خارج الرحم، خصوصاً وأن المولود يأتي حارقاً مراحل النمو الأولى، فيولد كهلاً خاليّاً من قوانين الفعل وردات الفعل، محققاً شروط الطاعة الصهيونية الأميركية، بدءاً بالالتزام بمواعيد النوم، وليس انتهاء ببيع الأوطان والإنسان.

لو أن أولئك العلماء أعلنوا عن نيتهم تلك، قبل أن يبدأوا أبحاثهم الجينية، لمنحناهم، نحن الشعوب العربية، أمثلة حية، لا تقبل "الانقراض" عن زعماء يحسبون على جلدتنا وطينتنا، لكنهم أول من يشوه جلودنا ويحرق طينتنا. زعماء على استعداد لأن يكونوا في الخندق الأول دفاعاً عن إسرائيل، وبقائها، وإلقاء شعوبهم في البحر بدلاً منها. زعماء تم تلقيحهم من منويات وبويضات مشوهة، ثم حشروا حشراً في رحم الأرض العربية، ليأتي المولود الذي زغردت له الشعوب "روبوتاً" يدار بأزرار خارجية، لا بل أصبح هذا "الروبوت" مجتهداً ويبتكر حركات جديدة، تدهش صانعيه أنفسهم، على غرار التطوع لوأد ثورات الربيع العربية، وحرفها عن مساراتها. 

أقول ذلك، وفي ذهني ما تردد من أنباء، أخيراً، عن توقيف موكب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على حاجز إسرائيلي. صحّت تلك الأنباء أم لم تصح، فإن المؤكد أن ردة فعل عباس لم تتجاوز حدود عقد الحاجبين على الجبين الخشبي، بعد أن غدا سلاح السلطة الفلسطينية كله سيوفاً من خشب، على حد تعبير نزار قباني.

هذا أولاً، أما السبب الثاني، فلأن عباس وسواه من عرّابي "أوسلو"، لم يكونوا أكثر من "كهول أنابيب"، جرى إنتاجهم على عجل في مختبرات التلقيح الأميركية الإسرائيلية المشتركة، بمنويات ديناصور منقرض، مع بويضات أنظمة عربية داجنة. وعلى هذا، لا بد أن يكون الوليد كهلاً، لا تتحرك فيه نأمة كبرياء، سواء اعترض موكبه شرطي بلا رتبة، أو غزت أراضي سلطته المقطعة كسلاسل "السّجق" قطعان الجنود والمستوطنين يوميّاً.

والحال أن ما جرى من استيلاد أنابيبي لزعامات "أوسلو" ينسحب، كذلك، على بعض

أسلافها الذين تم تلقيحهم خارج الرحم الفلسطيني، ولأمكننا بلوغ نتيجةٍ، مؤداها أن بذور الفناء كانت، أصلاً، كامنةً في جذور نشأة منظمة التحرير الفلسطينية التي اختارت أن تولد خارج هذا الرحم الوطني، مخدوعة ربما، بالرحم العربي الأوسع، الذي اعتقدت أنه سيكون حاضنة النضال الفلسطيني نحو القدس، غير أنها اكتشفت، لاحقاً، أن هذا الرحم لم يكن أكثر من مشنقة، ظلت تطارد هواء المقاومة حتى آخر زفرة، وتدفعه ركلاً باتجاه أوسلو، وغيرها من اتفاقيات العار التي مرّغت وجه القضية بالذل والانحناء.

نعم، هذا مصير كل ثورة تنشأ خارج الرحم الوطني، وهذا ما اكتشفه الراحل، ياسر عرفات، متأخراً، حين أدرك أن طريق التنازلات تنتهي، يوماً، بالتفريط الكامل بفلسطين كلها، من الماء إلى الماء، وحين حاول العودة إلى الرحم الوطني، كان الأوان قد فات، فحوصر في مبنى المقاطعة معزولاً، ومات "شهيداً.. شهيداً.. شهيداً". ولعلّ من الإنصاف القول، إن الزعيم عباس فهم الدرس جيداً، وأدرك أن مصيره لن يكون أفضل، إذا لم يواصل طريق التفريط حتى النهاية، بصرف النظر عن "اللعلعات" التي تصدر منه بين حين وآخر، كالتلويح بالذهاب إلى مجلس الأمن لانتزاع الاعتراف بدولة عائمة على الماء، أو الانضمام إلى منظمات حقوق الإنسان الدولية، غير أنه سرعان ما يعود إلى رحم الزعامات العربية التي تحقنه بمزيد من القابلية للتفريط والتحامل على المقاومين الفلسطينيين في غزة، والمتظاهرين في رام الله، وسواها من المدن الفلسطينية.

عموماً، من يستولد خارج الرحم الحقيقي، لن يكون وفيّاً لهذا الرحم أبداً، وسيكون أول من يخونه ويلتهمه، تماماً كما تفعل صغار العقارب حين تلتهم أمها، وكما يفعل الزعماء العرب بالرحم العربي وشعوبه.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.