تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "ما أُقدّمه في علم الأديان المقارن مشروعٌ متكامل يُعرّف بأهم الأديان والمعتقدات في العالم ويُبيّن أثرها وتأثُّرها ببعضها"، يقول الباحث السوري لـ "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- الذي يشغلني هذه الأيام هو ما يشغل أعداداً كبيرة من البشر، وهو توقُّف دورة العمل، فبالنسبة إليّ دور النشر التي كانت تتّصل باستمرار لتعرف متى أُنهي الكتاب، تطلب مني الآن التمهّل لعدم تمكُّنها من تصريف الإنتاج، فأهم منافذ بيع مطبوعاتها هي معارض الكتب، والمعارض متوقّفة منذ مطلع العام في كل أرجاء العالم بسبب كوفيد - 19. لكنّي لاعتيادي العمل المستمرّ لم أتوقّف، وبدأت أعمل بما كنت أحلم به سابقاً ولا أجد له الوقت؛ فقد كتبتُ قصّةً قصيرة، وأعمل الآن على كتاب قد لا يوجد من يرغب في نشره ولكن عملي به يرضيني، وسأكون سعيداً إن تمكّنتُ من إتمامه.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك المقبل؟
- آخر كتاب هو الجزءُ السادس من سلسلة "نصوصٌ مقدّسة"، بعنوان "نصوص معتزلية، من عيون علم الكلام العربي - دراسة مقارنة". وكان الدافع في صنعته أنّي وجدته ضرورة أكثر منه عملاً علمياً، فهو، بما تظهره تلك النصوص من رقيّ فكري وتسامح ديني، دليل على تحضُّر وإنسانية الإسلام المتّهَم بالتخلُّف والتعصُّب. ومن جهة أُخرى إظهار محاولة المعتزلة لتحرير الفكر الإسلامي من النقل، وطرحهم النزعة العقلية في التفكير، التي لو قبلها المسلمون لتمّت نهضتهم قبل أوروبا بألف عام. أمّا الكتاب المقبل الذي هو تحت الطبع، فهو الكتاب السادس عشر من سلسلة "كتب مقدّسة"، وهو بعنوان "صحف النبي إدريس - دراسة مقارنة". هذا النبي الذي تدّعيه أقوام عديدة، واشتهر بنبوءاته وعلومه. يسعى الكتاب إلى تبيُّن ملامح هذه الشخصية التي تتقاطع عندها الأساطير والنصوص المقدَّسة.
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
- في الحقيقة أنا راضٍ عن إنتاجي العلمي، أوّلاً لأني قد وُفِّقت في نشره كاملاً، ووصوله إلى جمهور القراء، وليس لديَّ الآن أي عمل غير منشور إلّا ما هو تحت التأليف. كذلك أنا راضٍ جدّاً لأني أتلمّس رضى مجموعة كبيرة من القرّاء يكتبون لي ويناقشون ما أكتب، ويُبدون آراء قيّمة. وما يُشعرني بالرضى أكثر هو العدد الكبير من فئة الشباب المثقَّف الذين يقرأون لي سعياً وراء المعرفة بعقل متفتّح. لكن الأهمّ في مسألة الرضى عن إنتاجي هي إدراكي أنني مؤخّراً لم أُقدّم أعمالاً مفردة أو متنوّعة لا رابط بينها، فما قدّمتُه حتى الآن في علم الأديان المقارن هو مشروع فكري تنويري متكامل يهدف إلى التعريف بأهم الأديان والمعتقدات في العالم، وتبيان أثرها وتأثُّرها ببعضها من خلال الدراسة المقارنة.
عدم الاطلاع الواعي على عقائد الآخرين يشكّل حاجزاً
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- لو أمكن لي أن أعيش حياتي من جديد، وكان لي الاختيار، لما اخترتُ تبديل أي شيء فيها، ولسِرتُ مكرّراً خطواتي ذاتها كما عشتُها، ما عدا جانب صغير واحد، وهو أنني استغرقتُ عقدين من الزمان كنت أكتب فيهما حول التاريخ بشكل عام والتاريخ الإسلامي خصوصاً، حيث ألّفتُ وحقّقتُ فيهما كثيراً من الكتب، فلو قُيّض لي البدء من جديد لتجاوزتُ تلك الحقبة وبدأت مباشرة بالكتابة في موضوع علم الأديان المقارن، وذلك لأنّ هذا النوع من العلم هو فقط الذي بإمكانه أنْ يُحدث تغييراً جوهريّاً في طريقة تفكيرنا الديني، وهذا لا يعني أبداً النيل من أي معتقد ديني أو الدعوة إلى تبديله، وإنّما يهدف إلى تأسيس وعي جديد حول وضع الدّين وعلاقته بحياتنا.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- من يتابع بعض الكتب التي ألّفتُها، يلاحظ أنّني أحاول التمهيد لأسلوب تفكير يقود في النتيجة إلى حقيقة أتوق إلى أن يتفهّمها كلُّ ذي بصيرة: وهي أنّ كل الأديان من مصدر واحد، وأنها تهدف لقواسم مشتركة أهمها تحقيق الأمن الروحي للإنسان، وإقرار العدل الاجتماعي، وأنه لا يوجد أيُّ دين في حقيقته يدعو للظلم أو للعنف، إنما يوجد من يسيء التفسير ويستغلّ إيمان الناس وفق أهوائه أو مصالحه. كما أن عدم الاطلاع الواعي على عقائد الآخرين، يشكّل حاجزاً تجاه التفاهم بين الناس، فسوء فهم الأديان الأخرى كان ولا يزال سبباً للحروب المدمّرة، وأفضل مثال على ذلك هو الحروب الصليبية. هذا هو التغيير في النمط العام للتفكير الذي أنتظره وأسعى إليه من خلال من خلال ما أكتبه وما أنشره.
أعدُّ كتاباً سيكون خارج كلّ ما كتبَ حول تاريخ قريش
■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أتمنّى اللقاء بأبي فراس الحمداني، فقد كان لي معه أكثر من موقف؛ حيث كنت من المعدّين لندوة دولية عنه أقامتها جامعة حمص باقتراح منّي، وحاضر فيها مجموعة من المتخصّصين في الأدب والتاريخ، وتقدّمتُ فيها ببحث حول ولاية أبي فراس لحمص، أثار لديّ الكثير التساؤلات التي لم أجد لها جواباً. ورافق الندوة نقل رفات أبي فراس من برية صدد إلى ضريح يليق به في حمص، وكنتُ المشرف على عملية النقل، ممّا أضاف سؤالاً ظلّ يؤرقني: لماذا تسرّع وثار في حمص على ابن أخته سعد الدولة بن سيف الدولة، بدون تحضير أي من مقوّمات النجاح؟ ويبدو أن أهل حمص ورثوا عنه هذا الشكل من التمرُّد.
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- الأصدقاء الذين يخطرون ببالي دائماً كُثُر، ومأساة حقيقية هي انفراط عقد صداقاتنا، واضطرارنا للهجرة والشتات في بلدان العالم. أمّا الكتب التي أطالعها باستمرار فهي كتب الشعر، لأنّ الشعر كما الموسيقى بلسم الروح، ألجأ إليه في استراحتي وقبل نومي. ولكن الكتاب المحدَّد الذي أعود إليه باستمرار ولا أملّ منه فهو "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، إنه كتاب ساحر، كلّما قرأت فيه واحداً من الأصوات أتخيّل أنّي أسمع لحن الموسيقى وصدى الغناء، إنه باختصار ألف ليلة الشعر الخالد.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- أعيد الآن قراءة كتاب "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لجواد علي، كمقدّمة لمجموعة من الكتب عن تاريخ مكّة وقريش ستتلوه بالتتابع، والسبب هو أني أعد كتاباً سيكون خارج كلّ ما كتبَ حول تاريخ قريش، فقد سبق أن جمعتُ معلومات عديدة قد تُغيّر كثيراً من معارفنا حول أصل قبيلة قريش، وأسباب الفتوحات العربية. إن توقُّف دور النشر حالياً عن قبول مخطوطات جديدة للنشر دفعني لإحياء هذا المشروع القديم الذي ظلّ يراودني لسنوات، والذي أرجو أن أُثبت فيه معلومات مهمّة، قد لا تكون بعيدة عن وعينا، لكنها غالباً غير مرغوبة لدى رأي عام تشكّل خلال قرون.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أنا في السماع من المدرسة القديمة، فعادةً ما أسمع فيروز وموسيقى كلاسيكية، وأحياناً أسمع عبد الحليم ونجاة وأمّ كلثوم، ولكن في الأوقات التي أريدها أن تكون خاصّة أخرج عن هذا الاتجاه وأسمع الغناء الشعبي العراقي، وخاصة الجنوبي البصراوي، إنه شيء خارق ببساطته وحزنه الأبدي، يلامس شغاف القلب، ويُحلّق بالنفس إلى مدارات غير مطروقة، فإن لم يكن لديكم وقت لسماع ياس خضر، فإني أدعوكم لسماع مقطوعة صغيرة لأقلّ من دقيقة من أغنية "عشق أخضر" صاغها عن كلمات من التراث ناظم السماوي، وكان قد غنّاها المطرب المشهور سعدي الحلّي، وما اخترته لتشارك السماع هو قطعة منها بصوت رغد الكربلائي: "جيتك من بعد غربة".
بطاقة
باحث تاريخي سوري متخصّص في علم الأديان المقارن مِن مواليد حمص عام 1944. حاصلٌ على دكتوراه في تاريخ العرب والإسلام، درَّس في جامعات سورية، ويقيم الآن في لارنكا القبرصية متقاعداً متفرّغاً للبحث والتأليف. من إصداراته: سلسلة "كتب مقدّسة - دراسة مقارنة" (ستّة عشر مجلّداً)، وسلسلة "منطلقات الفكر الديني" (ثلاثة مجلدات) وسلسلة "نصوص مقدَّسة - دراسة مقارنة" (ستّة مجلدات)، وكتب أُخرى في تاريخ الإسلام وتاريخ الأديان.