وقفة مع محمد الداهي

17 فبراير 2020
(محمد الداهي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية، مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "بقدر تطوُّر الوسائل التكنولوجية، ارتدّت كثير من القيم إلى الدرك الأسفل"، يقول الناقد والأكاديمي المغربي في لقائه مع "العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- تشغلني جملةٌ من المشاريع الثقافية والعلمية التي يبدو أنَّ أغلبها قد استوفى الشروط والمعايير المطلوبة؛ ومن ضمنها مشروعٌ عن مواقع القرين، والسيميائيات ما بعد البنيوية، وحوارٌ باللغة الفرنسية مع الباحث اللغوي الفرنسي دومينيك مانغونو (1950) في مئة صفحة، وكتابٌ جماعي عن المنجز الشعري للشاعر المغربي محمد بنطلحة (1950). من أين أبدأ؟ كلما فرغت من تصحيح كتاب شرعت في الكتاب الموالي... إنه عملٌ متعِب ومرهِق، أتمنّى أن تكون ثماره مفيدةً وطازجة.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- صدر لي مؤخّراً كتابٌ جماعي ضمن "منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في الرباط (2019)، نسّقتُ مواده وشاركتُ بالكتابة فيه، وعنوانه "الخطاب الإشهاري: الوظائف والاستيهامات الرمزية". كما قلت، هناك مشاريع متزامنة، لكنّني أُراهن أساساً على كتاب سيصدر عن "المركز الثقافي للكتاب"، وكان من المنتظر والمؤمَّل أن يكون جاهزاً في "المعرض الدولي للنشر والكتاب" الذي يُقام في مدينة الدار البيضاء بين السادس والسادس عشر من شباط/ فبراير الجاري، لكن حجمه الذي يفوق خمسمئة صفحةٍ والوضعَ الحالي في لبنان حالا دون تحقُّق هذه الأمنية. أُسابق الزمن، صحبة الناشر بسّام الكردي، حتى يرى هذا العملُ النور قريباً، وهو، عموماً، يدور حول مواقع القرين في المحكيّات الذاتية.


■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟

- لو كنتُ راضياً لتوقّفتُ عن الكتابة. أطمحُ دائماً إلى الأفضل، وأظنُّ أنّني الآن - بحكم المراس والتجربة - وصلتُ إلى مرحلةٍ النضج التي تُؤهّلني إلى كتابة مؤلّفات نقدية رصينة.


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أيَّ مسار كنت ستختار؟

- أنا راضٍ عن مساري بإيجابياته وسلبياته... عندما كنّا شباباً، كنّا مهووسين بالخلود الأبدي لـ نيتشه، كنّا نتخيّل أنَّ شريط الحياة سيُعاد من جديد لتغيير الاختيارات التي أرّقت حياتنا سعياً إلى الأحسن والأفضل، ونسينا أنّنا سنُوضَع أمام الاختيارات نفسها ونسلك المسالك عينها، وهو ما سيضفي الرتابة والعقم على حيواتنا. علينا أن نُحسن الاختيار ونتحمّل تبعاته وعواقبه حتى النهاية.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- أنا من الجيل الذي ناضل من أجل تغيير العالم حرصاً على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وغيرها من الأهداف والمرامي النبيلة التي تقي البشرية من العنف وتضمن لها كرامة العيش. وعندما أتأمّل ما يجري الآن، أُلاحظ أنَّ هناك انتكاسةً وردّة على جميع المستويات؛ فبقدر ما تطوّرت الوسائل التكنولوجية بقدر ما ارتدّت كثير من القيم إلى الدرك الأسفل. في ما مضى، كان الرهانُ معلَّقاً على النضال السياسي والنقابي لتحسين الوضع المعيشي. أمّا الآن، فأصبح الرهان أكثر على الجانب الأخلاقي لتفادي انزلاق البشرية إلى الأسوأ.


■ شخصيةٌ من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

- أظن أن الشخصية التي استأثرت باهتمامي وما زالت هي شخصية كارل ماركس. لم أكن أبداً ماركسياً أرثوذكسياً، ولكنّني مِلت إليه، لأنه اقترح كثيراً من المفاهيم لتحليل الوضع الذي تعيشه البشرية اليوم، وخاصّةً تلك الشعوب التي كانت إلى وقت قريب مستعمَرة... أحرزت استقلالها السياسي في حين ما زالت تابعةً للمتروبول الما بعد كولونيالي. وأظنُّ أنَّ أفضلَ مَن شرح هذا الوضع هو عبد الله العروي في ما سمّاه "الماركسية الموضوعية"؛ وهي الماركسية التي تناسب وضعنا، وتُحفّزنا على ممارسة النقد الأيديولوجي بحثاً عن الحلول الممكنة.


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

من الكُتب التي أعود إليها باستمرار كتابُ "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" لـ عبد الله العروي، والذي انطلق من الأسئلة نفسها التي كانت تشغل الفلاسفة الألمان (وفي طليعتهم ماركس) في مواكبتهم للثورة الفرنسية. نعيش الوضع نفسه ونحن نشعر بالتأخُّر التاريخي تجاه الحضارة الغربية. كيف يمكن أن نصل إلى مستواهم دون المرور عبر المراحل ذاتها؟ هنا يكمن الدرس التاريخاني الذي كرّس له عبد الله العروي جُلَّ مؤلفاته، ويكمُن التقارب بين الأيديولوجيّتَين الألمانية (كارل مارس) والعربية (عبد الله العروي) من حيث وظيفتهما في البحث عن مفاتيح لتدارك التأخُّر التاريخي، بالنظر إلى النموذج المتقدّم.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ كتاب "أزمات الذاكرة" لـ سوزان روبان سليمان، وهو يهمُّ طريقتنا في سرد الماضي وإعادة تمثيله، وغالباً ما يؤدّي ذلك إلى نزاعات حول حدث ما. كل واحد يسرده لأغراض معيَّنة (أدلجة الذاكرة أو تطويعها)، ولا يسلم التاريخ الرسمي من هذه الورطة. ولذا أضحت أهمية توسيع شعرية الأنواع التذكارية (السيرة الذاتية والمذكّرات واليوميات والتخييل الذاتي والرسائل) واعتمادها لملء ثقوب الذاكرة وتصحيح اختلالاتها.


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- عشت في ميعة المراهقة في مدينة سيدي إفني التي كانت مستعمرةً من قبل الإسبان إلى حدود عام 1969، ومن ثَمَّ انجذبتُ أكثر إلى الموسيقى الشعبية الأميركو-لاتينية، وخاصّةً أغاني فيكتور خارا (victor Jara)، ومرسيدس صوصا (Mercedes Sosa)، وتينا أرينا (Tina Arena). وفي هذا السياق أقترح عليكم أغنية "شكراً للحياة" (Gracias a la vida) للفنّانة والمغنّية التشيلية فيولتا بارا (Violeta Parra) التي خلّدت في مسيرتها أغانيَ حول الحب والحياة والسعادة والعيش الكريم، وانتحرت في سانتياغو عام 1967. والأغنية المختارة ما زالت ذائعة الصيت إلى اليوم، وتُؤدَّى بأصوات مغنّيات من مختلف بلدان العالم لروعتها وشاعريتها وطابعها الرومانسي.


بطاقة

ناقد وباحث مغربي من مواليد 1961 في شفشاون شمال المغرب، يعمل أستاذاً في "كلية الآداب والعلوم الإنسانية". من أعماله: "القراءة المنهجية للنص الحكائي" (1996)، و"عبد الله العروي من التاريخ إلى الحب" (1997)، و"شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل" (2000)، و"سيميائية الكلام الروائي"، (2005)، و"التشخيص الأدبي للغة في رواية 'الفريق' لعبد الله العروي" (2006)، و"الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات" (2007)، و"صورة الأنا والآخر في السرد" (2013)، و"النقد المغربي: تجارب ورهانات" (2003)، و"القلق البيداغوجي: المدخل الثقافي للنهوض بالمدرسة المغربية" (2016). نشر عدّة دراساتٍ وترجمات، كما شارك في عددٍ من المؤلّفات الجماعية.

المساهمون