تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي، في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "لستُ راضياً عن إنتاجي، لكنني منذ زمن، تخلّصت من هذا السؤال. الآن لا أكتب لأرضى عن نفسي، فلستُ أجدُ اليوم معياراً لذلك وليس عندي ما أقيسه عليه"، يقول الشاعر اللبناني لـ"العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- يشغلني ما كان يشغلني دائماً، ما هو غالباً مترابط على نحو غامض، وإذا كان هناك ما يميّزه فهو أنّه ملتبس ولا يؤدّي إلّا إلى الانسداد نفسه، إن لم يكن الفراغ. السياسة متصلة بالميتافيزيقا أو المُعاش على نحو ميتافيزيقي. يمكن أن نجد مساراً تنتهي إليه انشغالاتي. ثمّة جانبٌ فيها محض شعوري. إنه الهلع، ليس من الوباء وحدهُ، بل من الحياة كلّها كمعضلة تزدادُ انغلاقاً. ثمّ هناك بالطّبع التمارين التي تتأتّى من المطالعة ومن الأفلام وأحياناً الموسيقى، إنّها نوعٌ من المشاركة الكونيّة لحلّ مسائل، سرعان ما تغدو خاصة أو شخصيّة تعرّضنا لانقسامات دائمة. بل يبدو أننا مع العمر وما يجرّه من مزيد من هذه الانقسامات نتعرّضُ للمزيد من التردّد بينها، ما يجعلها تنقلبُ أكثر فأكثر علينا.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- آخر أعمالي في الشّعر "الحِداد لا يحمل تاجاً"، أمّا في الرواية فكان نصاً بعنوان "شهران لرلى" وهو نصّ سرديّ يقبلُ بتصرّف اسم رواية. أمّا عن عملي القادم، إذا أمكن أن نفكّر بقادم في زمن كورونا، فهو عمل من زمن الحجر وهو، إذ يتّخذ من الحجر أرضيّة لا أعرف لأيّ درجة يمكن أن نردّه إليه. هنا يتخذ التفصيل الواقعي بُعداً إلغازياً. هنا يتكلّم المباشر والغريب ذات اللغة تقريباً.
■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
- لا أعرف كيف نرضى عن شيء نبقى في حيرة من أمره ونبقى طوال الوقت نبحثُ عن سبب له. بالطبع تجعلُنا الكتابةُ ننتصرُ على أنفسنا، لكن من نحن لنعدّ ذلك انتصاراً. الكتابة أكبر منّا ولكن من نحن لنجد ذلك كبيراً فعلاً. لا يا سيّدي لستُ راضياً عن إنتاجي لكنني منذ زمن تخلّصت من هذا السؤال. الآن لا أكتب لأرضى عن نفسي فلستُ أجدُ اليوم معياراً لذلك وليس عندي ما أقيسه عليه. إنني أكتب الآن لأنّ هذا ما أعرفُ أن أعمله ولأنّه عملي. أكتب ببساطة لأنني كاتب. أنا بالطبع أحاولُ أن أحسّن عملي وأن أحسّن معه نفسي. أُسَرُّ إذا وقعتُ على شيء جديد وأحسّ بالطّبع أنني أحقّقُ شيئاً لكن بأيّ مقياس. الأرجح أنني أقيسُ على نفسي وهذا ليس كافياً. لا أقولُ إنّني لستُ راضياً وإلّا فلماذا أستمرّ؟ لكنّني أقولُ إن المسألة قد لا تكون هنا.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختار؟
- دعني أقول لا أعرف، لكنّي لست ضيقاً بما أنا فيه اليوم. لا أملكُ استعداداً لشيء آخر أو لا أعرفُ إذا كانت عندي ملَكة لشيء آخر. أنظرُ من مكاني اليوم ولا أستطيعُ أن أتخيّل نفسي سياسياً أو رياضياً أو رجل أعمال. قد أتخيّل نفسي أستاذ جامعة أو باحثاً أو موسيقياً، لكنني هكذا لا أبتعدُ كثيراً، بل أنا هكذا أبقى في مطرحي ذاته تقريباً. أن نختار بين الرواية والشعر مثلاً ليس جذرياً. أظنّ أن اختياراتي ستبقى في هذه الحدود. لا تنسَ أنني مارستُ أشياء كثيرة قد يكون مستحسناً أن أقلّل منها وأحصر نفسي في بعضها.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- هذا سؤال صعب فعلاً، بل هو باعثٌ على السخرية. شخصٌ مثلي صحا على اليسار في مستهلّ عمره، يكادُ التغيير يختصرُ كفاحه وثقافته وتربيته، ومن المؤكّد أن خسارته لذلك تكادُ تكونُ خسارة عامّة وفشلاً كاملاً. مع ذلك فإنني لا أطيقُ بعدُ التغنّي بالتّغيير. لا أقولُ بالطّبع إن الأشياء تبقى في مكانها ثابتة، لكني أقول إنها لا تتغيّر بالضرورة إلى ما نعتبره الأمام، فليس لدينا بالتأكيد خارطة مُثلى للتغيير. الأشياء تتغيّر، بل هي في راهنها متحرّكة تميلُ إلى أكثر من جهة وتجمع بين متناقضات ومختلفات، وهناك بالتأكيد شبه مسارات واضحة كالديمقراطية وتَحرُّر المرأة، لكن السعادة ليست وعداً إلّا في مخطّط مثالي لا أظن أنّه ممكن بقوة الحلم أو الإرادة المجرّدة. التغيير يحصل لكن ليس بإرادتنا ولا بتخطيطنا. إنه قد يكون وبالاً بالقياس إلى آمالنا، مع ذلك فإنّه نزهتنا في التاريخ، قد يكون من هذه الناحية مثيراً وأحياناً فاتناً، لكنّنا لا نقيسه ولا ينبغي ذلك بعدُ على تمنياتنا. من المهم ألّا يبقى ديناً.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- هذا سؤال أكادُ أعتبرهُ روائياً. إنّه جزء من فانتازيا شخصية. لا أعرفُ إذا كنّا حقّاً نحلمُ بلقاء شخصيّة من الماضي. هذا لا يقومُ على حلم، الواقع أنّنا لا ننفصلُ عن الماضي إلّا في الزمن، لكن من هو ابن زمنه فقط ؟! أليست الأديان مثلاً تجعلنا في صحبة من أيّ نوع كان شخصيّات من قرون سحيقة؟ أليس الدين، بهذا المعنى، رهن هذا الخيال؟ لا نمضي الوقت في استنطاق شخصيات من الماضي واستنتاج أجوبتها أو تخيّلها. هذه فانتازيا عامة والسؤال فقط يردها فرديّة. من هذه الناحية، فإن حلمي بلقاء شخصيّة من الماضي ينصبّ على شخصية ملتبسة. أطمح إلى أن أعرفها عن كثَب مثل الملاحدة في الاسلام... الرازي مثلاً.
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- منذ زمن، وبسبب العمر في الأغلب، صار الأصدقاء بعيدين وموجودين أكثر في الذاكرة، بحيث إننا في الحجر، ولفرطِ ما خفنا من عزلتنا، افتقدناهم واستعدناهم بالتليفون الذي صار مجتمعنا. أفكّر في هذه اللحظة في صديق راحل لأنّ ذلك يردّني إلى زمن المجتمع. أفكّر في صديق كان يحصلُ أن ألاقيه كلّ يوم. كان في صيدا حيثُ كنت أقيم. إنه الشاعر والمترجم والمثقف المهمّ بسّام حجار. لكنّ السؤال عن كتاب أعود إليه دائماً ليس لي، فأنا لا أصدّق أن أُنهي كتاباً حتّى أطويه نهائياً. يحصلُ أحياناً أن أعيد قراءة كتاب كما حصل منذ أيام حين أعدتُ قراءة "الحمامة" لسوسكيند مؤلّف "العطر" ولم أندم. كانت الرواية القصيرة تستحق، لكنّ ذلك كان بسبب العزلة أو من مفاعيلها.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- أقرأ رواية لكاتب هنغاري لم يكن لي من قبل معرفة باسمه، لكنّها مفاعيل العزلة، الرواية هي "كآبة المقاومة" لـ لاسلو كراسنا هوركاي التي نال عليها "جائزة مان بوكر". الرواية مكتوبة بمقدرة تتخطّى أحياناً الاحتمال. إنّها تُذكّر بكافكا في شعريّتها لكن أيضاً بتوماس مان في استعراضها الثقافيّ الفلسفيّ، بل هي في تناولها للموسيقى تذكّرني بفاوست.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- قلّما أسمع، لكنّي أتذكر فيفالدي والتاسعة لبيتهوفن وفاغنر. أمّا من ناحية الاقتراح فأنا أتذكّر خاطرة لمارسيل خليفة عن نصّ موسيقي بحت مقابل مطوَّلتي "صور".
بطاقة
شاعر وروائي وصحافي ثقافي من مواليد صور في لبنان عام 1945 شكّلت تجربته علامة فارقة في قصيدة النثر العربية. من إصداراته الشعرية: "صور" (1985)، و"أشقاء ندمنا" (1993)، و"الجسد بلا معلّم" (2004)، و"شجرة تشبه حطّاباً" (2005)، "الموت يأخذ مقاساتنا" (2008)، و"بطاقة لشخصين" (2009)، و"صلاة لبداية الصقيع" (2014)، و"الحداد لا يحمل تاجاً" (2019). ومن أعماله الروائية: "تحليل دم" (2002)، و"مرايا فرانكشتاين" (2010)، و"خريف البراءة" (2016). كما صدرت له مختارات من مقالاته بعنوان "ربما، قليلاً، على الأرجح" (2004).