08 سبتمبر 2019
وطن لم يعد موطني
"موطني.. الجلال والجمال.. والسناء والبهاء.. في رباك.. والحياة والنجاة.. والهناء والرجاء.. في هواك"..
كلمات ربطت قلوبنا بحب الوطن أنشدتها كغيري من الطلاب منذ اليوم الأول لالتحاقي بالمدرسة الابتدائية، كانت قد استهوتنا أناشيد الحماسة والوطنية فاشرأبت في قلوبنا واعتادت ألسنتنا على تكرراها، فكم رددنا: "وطن مد على الأفق جناحا.. وارتدى مجد الحضارات وشاحا"، في الاحتفال لكل مناسبة، أو عندما كانت تأخذنا إدارات المدارس للاحتفال بمهرجان الربيع السنوي، ولكن ربيع تلك السنة جاء على غيرعادته، فلم تتوشح مدينتي بردائها الربيعي المتميز، ولم تحتفل بمهرجانه وتتغنى بحب الوطن، فالجو ساده الخوف والقلق وتهديدات بدق ناقوس الحرب تلوح في الأفق، وتُحوُّل المدينةَ إلى مساكن أشباح..
أغلقت المحلات أبوابها وخلت الشوارع من المارّة، حتى قطرات المطر بدت خجولة في تساقطها، ينتابها القلق وكأنها تعزف لحن الحزن بأوتار البؤس، مودعةً آخر شتاء يعرف فيه أبناء بلدي دفء عيش الاستقرار في وطنهم، وكأن الشمس متعثرة في خطاها، والظلام يريد أن يخضبها بالدماء، فصارت تتثاقل أمامه خائرة القوى، والناس حيارى لا يعلمون ماذا سيحصل..
توقعات وشائعات كثيرة.. تارة أن أميركا ستضرب قنبلة منوم وتدخل لاحتلال العراق، أو أنها ستلقي علينا قنبلة نووية كما فعلت في هيروشيما.. وهكذا. وسرعان ما دقت طبول الحرب في ليلة 19 مارس/ آذار، فأمُطرتْ بغداد بكل أنواع الصواريخ والقنابل، واعتلى صوت أزيز الرصاص كل مكان، دفاعات العراق الجوية تنطلق بضعفها في سماء تلبدت بالغيم الأسود الذي يحكي نذير شؤم مرحلة مقبلة من الزمن..
استمرت الحرب بين معارك كر وفر في ميناء أم قصر جنوبا، وقصف بعنف يهز أركان العاصمة، وإنزال جوي على مطار بغداد يُغير معادلة المعركة ويقترب من حسمها لصالح أعتى قوة في القرن الواحد والعشرين رغم مقاومة الجيش العراقي الشرسة..
قُتلَ آلاف الأبرياء وهُدمت معظم البُنى التحتية وقصفت مقرات ومعسكرات الجيش في أنحاء العراق. حرب متوحشة قتلت أحلامنا البسيطة التي كانت كبراءة طفولتنا التي لم تعرف جشع الحكام ومخططاتهم لإبادة شعوب بأكملها من أجل أن تكون لهم السطوة والكلمة، وأن يبقوا في مراكزهم، ولم تعرف أن هنالك دولة تغير على دولة أخرى وتستبيح دماء أبنائها وتمتهن كرامتهم..
التاسع من إبريل/ نيسان، سقطت بغداد في يد البرابرة، وهذه ليست أول مرة، فقد قُدر لها أن تختطف وأن يدمرها المغول في كل عصر، بلاد بأكملها تستباح لكذبة صنعوها وصدّقوها ثم فرغوا حقدهم في جسدها المنخور القابع تحت وطأة حصارهم لثلاث عشرة سنة، سقوط مدو سقطت معه كل الهتافات الفارغة، وبدأ بعدها المشهد كأنه مِنسأَةَ سليمان تنخرها الأرضة من تحتها، ولا أحد يكثرت لما يحصل أو يشعر به، دُمر كل ما يمتُ للحضارة بصلة، سرقت آثار بغداد وتاريخها، ونهبت المتاحف ونقلت إلى الخارج، وفرّغ العراق من تراثه..
أعيدت صورة احتلال هولاكو لبغداد، ولكن هذه المرة على يد مدّعي الحضارة وحاملي شعلة الحريّة، أُحرقت المكتبات ونُهب المتحف الوطني وسرقت كتابات عمرها ستة آلاف سنة، ونهبت الكتب التاريخية والنسخ العثمانية من المصاحف النادرة، ولوحات خطاطين عمرها مئات السنين، في أكبر عملية محو حضاري وسطو بربري شهدها العالم في القرن الواحد والعشرين. كل شيء حزين وباهت، الرماد يغطي الطرقات، وآثار بشر كثيرين فوق الرماد متجهة إلى حافة ليس بعدها شيء سوى الهاوية!!
نعم إنها الهاوية التي انحدر إليها وطن بأكمله وأصبح فريسة للفساد والقتل والتشريد، ونهب لثرواته وتغييب لأبنائه في سجون الظلم أو في بلاد المهجر، قُتل من الكوادر والعلماء الآلاف واستنزفت الثروات وسُلم ثلث أراضيه إلى تنظيم أوغل بالدماء فسالت في دجلة وتطلخ بها الفرات وخضبت بها أشجار النخيل، ستة عشر ربيعاً، تختلط فيها رائحة الزهور برائحة البارود والموت..
وكان آخر ربيع فيها الأفجع والأفظع حيث ملأ فوران دجلة قلوب أحبابه بالرعب، وقتل الفساد والجشع أرواحاً بريئة، كانت تظن أن يوماً شمسه وسماؤه صافية ومزدان بأبهى حلة وأبدع وشيّ لنُ يُعكر بلون الطمع ويُكدر صفوه بالجشع، فكانوا ضحية عبّارة بدل أن تنقلهم إلى جمال الطبيعة وأكاليل الزهر ليستنشقوا نسمات فواحة بالعبير وينبعث إلى آذانهم صوت مختلف، البلابل والأطيار، نقلتهم إلى قاع النهر لتفيض أرواحهم إلى بارئها، وكأن لسان حالهم يقول معاتبا: ما لك يا موطني أتفرح بيوم قتلي، أم حتى أفراحنا فيك رُسمت بفرشاة ألمي؟!..
نأمل أن تصحو يا موطني ونراك ذا جلال وجمال، وأن تكون سالماً منعماً وغانماً مكرماً وأن يسير أبناؤك في عُلاك، ولا يزال هذا أملاً، وكما قال محمود درويش: "وبي أمل يأتي ويذهب ولكني لا أودعهُ".
كلمات ربطت قلوبنا بحب الوطن أنشدتها كغيري من الطلاب منذ اليوم الأول لالتحاقي بالمدرسة الابتدائية، كانت قد استهوتنا أناشيد الحماسة والوطنية فاشرأبت في قلوبنا واعتادت ألسنتنا على تكرراها، فكم رددنا: "وطن مد على الأفق جناحا.. وارتدى مجد الحضارات وشاحا"، في الاحتفال لكل مناسبة، أو عندما كانت تأخذنا إدارات المدارس للاحتفال بمهرجان الربيع السنوي، ولكن ربيع تلك السنة جاء على غيرعادته، فلم تتوشح مدينتي بردائها الربيعي المتميز، ولم تحتفل بمهرجانه وتتغنى بحب الوطن، فالجو ساده الخوف والقلق وتهديدات بدق ناقوس الحرب تلوح في الأفق، وتُحوُّل المدينةَ إلى مساكن أشباح..
أغلقت المحلات أبوابها وخلت الشوارع من المارّة، حتى قطرات المطر بدت خجولة في تساقطها، ينتابها القلق وكأنها تعزف لحن الحزن بأوتار البؤس، مودعةً آخر شتاء يعرف فيه أبناء بلدي دفء عيش الاستقرار في وطنهم، وكأن الشمس متعثرة في خطاها، والظلام يريد أن يخضبها بالدماء، فصارت تتثاقل أمامه خائرة القوى، والناس حيارى لا يعلمون ماذا سيحصل..
توقعات وشائعات كثيرة.. تارة أن أميركا ستضرب قنبلة منوم وتدخل لاحتلال العراق، أو أنها ستلقي علينا قنبلة نووية كما فعلت في هيروشيما.. وهكذا. وسرعان ما دقت طبول الحرب في ليلة 19 مارس/ آذار، فأمُطرتْ بغداد بكل أنواع الصواريخ والقنابل، واعتلى صوت أزيز الرصاص كل مكان، دفاعات العراق الجوية تنطلق بضعفها في سماء تلبدت بالغيم الأسود الذي يحكي نذير شؤم مرحلة مقبلة من الزمن..
استمرت الحرب بين معارك كر وفر في ميناء أم قصر جنوبا، وقصف بعنف يهز أركان العاصمة، وإنزال جوي على مطار بغداد يُغير معادلة المعركة ويقترب من حسمها لصالح أعتى قوة في القرن الواحد والعشرين رغم مقاومة الجيش العراقي الشرسة..
قُتلَ آلاف الأبرياء وهُدمت معظم البُنى التحتية وقصفت مقرات ومعسكرات الجيش في أنحاء العراق. حرب متوحشة قتلت أحلامنا البسيطة التي كانت كبراءة طفولتنا التي لم تعرف جشع الحكام ومخططاتهم لإبادة شعوب بأكملها من أجل أن تكون لهم السطوة والكلمة، وأن يبقوا في مراكزهم، ولم تعرف أن هنالك دولة تغير على دولة أخرى وتستبيح دماء أبنائها وتمتهن كرامتهم..
التاسع من إبريل/ نيسان، سقطت بغداد في يد البرابرة، وهذه ليست أول مرة، فقد قُدر لها أن تختطف وأن يدمرها المغول في كل عصر، بلاد بأكملها تستباح لكذبة صنعوها وصدّقوها ثم فرغوا حقدهم في جسدها المنخور القابع تحت وطأة حصارهم لثلاث عشرة سنة، سقوط مدو سقطت معه كل الهتافات الفارغة، وبدأ بعدها المشهد كأنه مِنسأَةَ سليمان تنخرها الأرضة من تحتها، ولا أحد يكثرت لما يحصل أو يشعر به، دُمر كل ما يمتُ للحضارة بصلة، سرقت آثار بغداد وتاريخها، ونهبت المتاحف ونقلت إلى الخارج، وفرّغ العراق من تراثه..
أعيدت صورة احتلال هولاكو لبغداد، ولكن هذه المرة على يد مدّعي الحضارة وحاملي شعلة الحريّة، أُحرقت المكتبات ونُهب المتحف الوطني وسرقت كتابات عمرها ستة آلاف سنة، ونهبت الكتب التاريخية والنسخ العثمانية من المصاحف النادرة، ولوحات خطاطين عمرها مئات السنين، في أكبر عملية محو حضاري وسطو بربري شهدها العالم في القرن الواحد والعشرين. كل شيء حزين وباهت، الرماد يغطي الطرقات، وآثار بشر كثيرين فوق الرماد متجهة إلى حافة ليس بعدها شيء سوى الهاوية!!
نعم إنها الهاوية التي انحدر إليها وطن بأكمله وأصبح فريسة للفساد والقتل والتشريد، ونهب لثرواته وتغييب لأبنائه في سجون الظلم أو في بلاد المهجر، قُتل من الكوادر والعلماء الآلاف واستنزفت الثروات وسُلم ثلث أراضيه إلى تنظيم أوغل بالدماء فسالت في دجلة وتطلخ بها الفرات وخضبت بها أشجار النخيل، ستة عشر ربيعاً، تختلط فيها رائحة الزهور برائحة البارود والموت..
وكان آخر ربيع فيها الأفجع والأفظع حيث ملأ فوران دجلة قلوب أحبابه بالرعب، وقتل الفساد والجشع أرواحاً بريئة، كانت تظن أن يوماً شمسه وسماؤه صافية ومزدان بأبهى حلة وأبدع وشيّ لنُ يُعكر بلون الطمع ويُكدر صفوه بالجشع، فكانوا ضحية عبّارة بدل أن تنقلهم إلى جمال الطبيعة وأكاليل الزهر ليستنشقوا نسمات فواحة بالعبير وينبعث إلى آذانهم صوت مختلف، البلابل والأطيار، نقلتهم إلى قاع النهر لتفيض أرواحهم إلى بارئها، وكأن لسان حالهم يقول معاتبا: ما لك يا موطني أتفرح بيوم قتلي، أم حتى أفراحنا فيك رُسمت بفرشاة ألمي؟!..
نأمل أن تصحو يا موطني ونراك ذا جلال وجمال، وأن تكون سالماً منعماً وغانماً مكرماً وأن يسير أبناؤك في عُلاك، ولا يزال هذا أملاً، وكما قال محمود درويش: "وبي أمل يأتي ويذهب ولكني لا أودعهُ".