وزارة الغباء الطبيعي

14 نوفمبر 2017
+ الخط -
كان حريًّا بدولةٍ تنزل عقوبة السجن عشر سنوات، وغرامةٍ مهولة، بمواطن انتقد "رموز الحكم"، أن تخترع وزارةً للغباء الطبيعي، لا للذكاء الصناعي.
وكان أدعى بدولةٍ تصدر حكمًا مماثلًا بحق الأكاديمي والخبير الاقتصادي، المدافع عن حقوق الإنسان، الدكتور ناصر بن غيث، بعد أكثر من عام ونصف العام من الاعتقال، بسبب تدويناته وتغريداته القصيرة التي يدين فيها فض اعتصام ميدان رابعة العدوية في مصر، ومطالباته بالإصلاح وتأييده ثورات الربيع العربي، أن تنشئ وزارةً للمناحات واللطميّات وشق الجيوب، لا وزارة للسعادة.
وكان الأجدى بدولةٍ تحكم على الصحافي الأردني، تيسير النجار، بالسجن ثلاثة أعوام، وبغرامة لن يكتمل سدادها إلا عند نسله العاشر ربما، كل ذنبه أنه اقترف جريمة "التضامن مع غزّة" وانتقاد مواقف الدول العربية من حصارها، أن تؤسّس وزارة للسجون التي تعج بالأبرياء، بدلاً من "مدينة السيلكون" التي تتبجح بها لضرورات التباهي بمواكبتها التطور العلمي والتقني.
وكان على دولةٍ، لم تترك فرصة لإجهاض ثورات الربيع العربي إلا واستغلتها أبشع استغلال، فأعادت البزز العسكرية لتحكم مصر بالرصاص والهراوات، وأزالت الصدأ عن هيكل جنرال ليبي خارج التاريخ والجغرافيا (خليفة حفتر)، وأعادته إلى بلده للتواطؤ ضد نظامه الشرعي الذي انتخبه الشعب.. ودولة بذلت الغالي والقبيح، لتجعل من ثورة الشعب السوري درسًا دمويًّا لكل الشعوب العربية الأخرى، قبل أن تفكّر بالثورة على طغاتها، عبر دسّ رجال اللحى المريبة، في صفوف السوريين، تحت ذرائع الإسناد ومحاربة "النظام الكافر"، مع الإغداق عليهم بثرواتٍ لم يحظ منها فقراء الأمة، ولا بالنزر اليسير.. كان على مثل هذه الدولة أن تنشئ وزارةً لوأد الطموح العربي بالحرية والخلاص من الاستبداد، بدلًا من استعراض "التاكسي الطائر" الذي أدخلته إلى الخدمة أخيرا، اللهم إلا إذا كان المقصود تسريع إيصال الإنسان العربي إلى حتفه.
وكان يؤمل من دولةٍ صغيرةٍ بطموحات إمبريالية، تعاقدت مع وكالاتٍ عالمية للمهمات القذرة، مثل "بلاك ووتر" وغيرها، لتنشئ سجونًا للشعب اليمني الباحث عن حريته، في سعيها إلى بسط نفوذها على باب المندب، وتمرير مخططاتٍ جهنميةٍ تُحاك للمنطقة، لصالح إسرائيل والولايات المتحدة.. وكان خليقًا بدولةٍ فاحت رائحة سفرائها في الخارج، من فرط ما هدروا من أموالٍ للتعاقد مع مروجي أكاذيب، وأدعياء إعلام، ولصوص إنترنت ومواقع إلكترونية؛ للسطو على وكالة الأنباء القطرية، وتشويه صورة قطر، وما تتبناه من قضايا مؤازرة للشعب الفلسطيني.. كان عليها أن تبتكر وزارةً للمؤامرات، وحبك خيوط الدسائس ضد الإنسان العربي الذي تدّعي اهتمامها به، والحرص على النهوض به، بدل أن تحاول خلب أنظارنا بأبراجها وناطحات سحابها التي لم "تنطح" غير ظهر المقاوم العربي في أشد مناطقه حساسية.
كان حريًّا بدولةٍ تخرج من جحر جغرافيتها بين حين وآخر، كما تخرج الأسماك الشوكية السامة من قعر البحار لنهش ضحاياها، أن تعرف أن أخلاق الروبوتات التي تفكر بتصنيعها، واستيراد تقنياتها، لا تنسحب على الإنسان العربي الذي لا يمكن أن يُدار بالريموت كونترول إلى الأبد، بدليل أن هناك من يتمرّد، وهناك من هو على استعدادٍ للاستغناء عن عشر سنواتٍ من عمره، في مقابل أن ينطق بكلمة حق عند سلاطين الجور، كما فعل بن غيث، والنجار، ومن سيفعل لاحقًا من أضرابهما.
لعل معضلة هذه الدولة (وغيرها) أنها لم تزل على جهل اعتقادها أن التكنولوجيا منفصمة عن الإنسان، وأن المطلوب هو التحديث الصناعي، قبل تحديث المواطن بالحريات والحقوق، والكفّ عن ملاحقته واعتقاله، لمجرد التعبير عن الرأي، وانتقاد أنظمته الحاكمة، فهذا المواطن المكبوت لن تناسبه من المستوردات غير "طناجر الضغط"؛ لأنه يرى فيها معادلاً تكنولوجيًا لمبلغ الضغط والاحتقان اللذيْن يكابدهما على مدار اللحظة العربية البائسة.
عمومًا، تلزمنا، حقًا، وزارات غباء طبيعي لبعض الأنظمة العربية التي ما تزال تعتقد أنها أذكى من شعوبها.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.