يُقال دائماً: "فلنكن واقعيين". حضورُ العلم في الأدب العربي حضور فقير. أبخرة المختبرات لا تستوقف الكتّاب كضباب الحب ودخان السجائر وحرائق التاريخ والحروب. مثل صيحة أرخميدس "وجدتها!"، اشتهر الطباق بين الشعر والعقل. هذا الفالق بين القلب والعاطفة من جهة، وبين العقل والفكر من جهة أخرى، يسري في المناهج المدرسية والمقاهي والشوارع، ودارت حول اشتقاق "الشعر" من "الشعور" العديد من الأمثلة الساخرة والمؤازرة على السواء. ربما لا يزال هناك كثيرون يعتبرون الشعر احتجاجاً وصلاة وأغنية وشكوى وغزلاً، والشعراء، المجانينَ أو النرجسيين، شياطين أو صعاليك أو ملائكة مقصوصة الأجنحة.
ههنا محض صدفة. كتب راينر ماريا ريلكه عن الموت الكبير الذي يحمله كلٌّ منا، كالثمرة، وكلُّ شيء يدور حوله، ثم اكتشفت لاحقاً ظاهرة موت الخلية المبرمج. كل جسد، منذ ولادته، محمَّل بموته الذي يعايشه. قد تقارب مثل هذه الأفكار ما سعى إليه منذ القدم علماء اللاهوت المأخوذون، كنقاد الأدب، بالمطابقات في محاولاتهم تفسير الكتب المقدسة، لتطابق حقيقةٌ علمية محددة، طبية أو جيولوجية أو فلكية، هذا النصَّ المقدس أو ذاك. في عصور لم ترفع الحواجز بين العلوم والفنون، كان الكثير من الفلاسفة والعلماء ينظمون الشعر، من لوكريتيوس إلى ابن سينا وتشارلز داروين الذي استهلّ عمله "أصل الأنواع" بالحيوانات المنقرضة، مستعيراً فكرة الفقدان هذه من "الفردوس المفقود" لجون ميلتون. وفي مثال آخر، تتضمن الرسائل الطويلة بين إسحاق نيوتن وتشارلز بورنيت أبحاثاً في الأسباب الطبيعية للأحداث التوراتية. افترض بورنيت إن الكتاب المقدس هو الوثيقة الوحيدة التي لا يأتيها الباطل، إنها الفصل بين الزيف والحق، والحقائق العلمية والدينية لا تتعادى. اقترح نيوتن تفسيراً لمفارقة أيام الخلق الستة، وهو إبطاء دوران الأرض حول محورها ليتولد يوم هائل الطول. احتج بورنيت بأن كلمة "يوم" عديمة المعنى إذا استخدمت قبل اليوم الرابع الذي خُلقت فيه الشمس، واشتكى من أنّ حَرف كوكبنا عن محوره قد قلّص أعمارنا من قرون إلى عقود.
القدماء معاصرون. مثل هذا الجدال الغرائبي آنف الذكر لا يزال حياً إلى يومنا هذا، حيث تتعايش التكنولوجيا والغيبيات، وتتوسّع لغاتٌ وتلتهم لغاتٍ أخرى. كل اللغات حية وجميلة. أليس ممتعاً أن يُروى ماضي الأرض ومخلوقاتها، كأننا ذاكرتها، أو كمن يهدهد طفلاً؟ كان العالم الجديد يضم ألفاً ومئة لغة عندما غزاه كولومبوس، فضلاً عن الديانات، فكم من لغة تبقت هناك؟ وكم لغة، بين ستة آلاف لغة راهنة، ستنقرض في بلبلة هذا العالم؟ حياتنا اليومية تجري وتمّحي بين القوى والألغاز العظيمة، حماستنا تنحسر ولا نلمح المعنى إلا خطفاً، ونحن نظنّ أننا سنقيم حقاً في هذا العالم إذا فهمناه، ضجرين من التيه التكنولوجي ومدمنيه الذين صرناهم؛ مثل آلهة الأساطير، التقدم العلمي هو الرعب والأمل.
أمام ثقافة المحاربين وتجارة العنف، الشعر كالعلم يتشبث بما يتبقى من الحياة أينما صودفت، السنتمنتالية عدو كليهما، وكلاهما يُخصبان بعضهما بعضاً، كلاهما ذهنان خلاقان يقدران الصبر والعزلة، متطرّفان كلٌّ بطريقته، يزنان التفاصيل ويقومان غالباً على الأسئلة والشكوك والحيرة ولا يطرحان يقيناً. العقلانية لا تقضي على الروحانية، والتحليل لا يحرمنا من الدهشة. لسنا رومانسيين إذا قلنا إن الشعراء والعلماء يحبون ما لا يعرفون. مجهول الشعر في اللغة، ومجهول العلم في الطبيعة (ونحن جزء يكاد لا يذكر منها)، وأمام المجهول الكبير، المفاجآت هي العلاقات التي نعثر عليها بين الأشياء. قد تنطلق القصائد كالتجارب العلمية من بدايات زائفة أو خاطئة وتفشل في أحيانٍ كثيرة. القصيدة والتجربة العلمية تعيشان سؤالاً مفتوحاً، وتحفلان عادة بالمجازات والصور التي لا يعرف القراء من أين تأتي. إنها المخيلة. المخيلة تتقاسم مع الآخرين عوالم داخلية لامرئية ورغبات وأحلاماً وكوابيس في الرحلات العجيبة للنوم واليقظة. إننا نتقاسم مورثاتنا (ومصائرنا) مع الذباب والفئران، يقول العلم؛ والشعر يذهب بنا إلى الحافات حيث التحول والبدء من لا شيء، الحافات حيث تنقلب الغابة حقلاً للرماية والنهر بحراً، وقد يلتئم عندها شتات أنفسنا فنغدو أقل استعجالاً وأقل خوفاً. لعل أقرب العلوم إلى الشعر هو علم الأحياء التطوري، فإذا كان الإنسان، هذه المفارقة المؤبَّدة التي تجعل بصراعاتها أي توازن على سطح هذا الكوكب مستحيلاً، إذا كان في سِير الأقدمين حيواناً ناطقاً أو عاقلاً، حيواناً ضاحكاً أو باكياً، فلم لا نقول إنه كذلك حيوان شعري؟