"إنه رجل طالما أبديت إعجابي بما قدمه في حياته الحافلة"، قالها تيري هنري عن جيفارا، مرتدياً قميصا يحمل صورة الثائر اللاتيني الذي عُرف تاريخياً بالثورة ضد الظلم، أثناء حضوره حفل الجوائز الخاص بأفضل لاعبي العالم عام 2004، الذي ينظمه "فيفا" أقوى منظمات كرة القدم، الإمبراطورية التي تدير كافة تفاصيل اللعبة الشعبية الأولى بالمعمورة.
لا يعتبر هنري أول رياضي يعبر عن حبه لتشي، فقد سبقه دييجو أرماندو مارادونا في أكثر من مناسبة، ليس فقط بالكلام بل بصورة الوشم البارز على ذراعه متزيناً بصورة مواطنه الأرجنتيني الذي وضع بلاد الفضة في مكانة خاصة، تقترن فيها سحر الكرة بجنون الحرب والحب والثورة في قالب واحد، والفرنسي الأسمر واحد من هؤلاء الذين ينظرون إلى اللعبة، وكأنها رسالة أكبر من كونها مجرد جلد منفوخ.
ويبدو أن العجيب الرهيب يعيش آخر أيامه الكروية، ويخوض آخر مواجهاته في الدوري الأميركي قبل العودة إلى أوروبا مرة أخرى، واقتحام مجال التدريب رفقة أستاذه أرسين فينجر كما توقعت معظم الصحف البريطانية هذا الأسبوع، خصوصاً بعد تأكيد هنري أنه يرغب في مساعدة آرسنال وتجربة فكرة الكرة خارج الخط، على غرار زميله السابق في منتخب فرنسا زين الدين زيدان.
البدايات الغريبة
هنري يشبه جيفارا، على الأقل بالنسبة لكاتب هذه السطور، لأن أرنستو قبل الدخول في عالم أميركا اللاتينية المليء بالصراعات والحروب، كان شاباً منطلقاً بدراجته النارية وفي الوقت نفسه يمارس رياضة الرجبي، ويدرس الطب، ويعيش حياته بين أصدقائه. إنها شخصية غريبة بعض الشيء تجمع بين الجرأة والخجل في آن واحد.
كذلك تيري الذي قاده حظه إلى ملازمة عظماء الكرة الفرنسية في جيل 98، حينما لعب مع فريق الشبان والتقطته أعين المدرب إيمي جاكيه لينال شرف التواجد في المونديال العالمي، ويحتفل بمفرده مع كل هدف عند الراية الركنية، يترك هنري ديشامب وزيدان وتورام، ويجري بكل قوة إلى أقصى المستطيل ليطبع بصمته الخاصة وسط عمالقة لا تقبل حلول الوسط.
من الثورة إلى لندن
إنها الصدفة فقط، التي جعلت جيفارا يقوم بجولته الاستكشافية رفقة صديقه الأكبر منه سناً والأكثر دراية بأمور السياسة، ليرى هموم غيره ويعيش واقعا مأساويا يختلف تماماً عن أحلامه التي رسمها في مخيلته، ليقرر الاستمرار في نصرة المظلومين حتى آخر نفس له بالحياة.
أما الفرنسي فترك وطنه وسافر إلى إيطاليا، جنة كرة القدم وأقوى أراضيها في حقبة التسعينيات لكن توظيف أنشيلوتي له كجناح صريح قضى على كل فرص النجاح، ليستمر ندم كارلو حتى اليوم على ترك هنري يرحل، لكن الوداع كان أجمل للغزال لأنه وجد نفسه بشكل حقيقي مع كتيبة المدفعجية، الثورة هي لندن وملعب هايبري.
هنري، المهاجم الهداف القوي الذي صنع تكتيكا جديدا لهذا المركز في الألفية الجديدة، لأنه جمع بين الجناح ومركز اللعب في آن واحد، وترك العمق للمدافعين ومال دائماً للجهة اليسرى كي يفاجئ الخصوم وينطلق كالغزال من الخط إلى الشباك دون مقاومة. ورغم أن جيفارا لعب كرة القدم لفترة كحارس مرمى وليس كساعد هجومي أيسر، إلا أنه انتهج "اليسار" كمذهب سياسي واقتصادي انتهجه وزير الصناعة السابق في عصر ما بعد الثورة الكوبية، تشي الوزير الذي ساعد العمال في مصانع الدولة، وترك القصور لكي يعيش مع البسطاء في الأرض لأنه في النهاية واحد منهم.
صناعة الأسطورة
كلما تحدثنا عن ظلم الطاغية واستعدنا ذكريات التمرد على أعتى الديكتاتوريات، فمقولة جيفارا الخالدة تظل حاضرة بقوة "الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن"، لذلك بقي الرفيق في قلوب الجميع رغم وفاته لأنه ترك إرثا حقيقيا سواء بالأفعال أو بالكلام الذي يعتبر بمثابة الوقود الحقيقي للمقهورين في كل بقاع الأرض.
في المقابل "أنام كرة قدم، أشرب كرة قدم، أتناول كرة قدم، أتنفس كرة قدم، وأنا لست مجنونا بل عاطفيا ومريضا باللعبة"، يحمل العجيب الرهيب على عاتقه مشاعر وأحاسيس المجاذيب بالساحرة المستديرة، لأنه بالنسبة للمشجعين ليس مجرد لاعب كبير أو نجم مميز، بل صديق للأنصار وتميمة العشاق الذين يجدون في الكرة موطنا خاصا بالفرحة بعيداً عن الأحزان في أعمق نظريات البهجة.
وكما ترك تشي كوبا وذهب لقدره في أدغال أفريقيا لأنه لا يهمه أين ومتى سيموت، بقدر ما يهمه أن يملاً الثوار العالم ضجيجاً، فإن تيري سار على نفس المنوال، ولم يعتزل الكرة بعد مسيرته في برشلونة بل سافر واستمر في الملاعب الأميركية، ولم ينس عشقه الأبدي أرسنال ليعود كل فترة ويقدم الهدايا في ملعب الإمارات رفقة كتيبة أستاذه فينجر في لمحة وفاء يفهمها فقط الحالمون.
وكما انتمى جيفارا إلى جموع الشعوب، فإن تيري هنري سيظل أحد الرموز الكروية الجماهيرية غير القابلة أبدا لأي تصنيف، في واقعة تخص أسطورتين يليق بهما أبيات نجيب سرور.. قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح.