وحارق دمهم

16 ابريل 2015

حرق كتب في مدرسة مصرية خاصة (العربي الجديد)

+ الخط -

كالعادة، تشطّر شجعان كثيرون على البردعة، خوفاً من رفس الحمار، واستقووا على أصغر إصبع في اليد الباطشة الخرقاء، ليلقنوا مسؤولي التعليم بمحافظة الجيزة دروساً قاسية في التحضر والثقافة، عقاباً لهم على حرقهم كتباً اعتبروها داعمة للإرهاب، في ساحة إحدى المدارس الخاصة.
للأسف، لن تتاح لأولئك الموظفين المخلصين لدولتهم الشامخة، والمتيمين بمحبة زعيمها السيسي "عمهم وحارق دمهم"، فرصة إعلامية واسعة ليدافعوا عن أنفسهم، وينطقوا بما سكت عنه الجميع، فيقولوا بعلو صوتهم، خصوصاً لمن اعترض على فعلتهم من مؤيدي السيسي من الكتاب والإعلاميين: "لماذا أنتم غاضبون مما فعلناه؟ لماذا ترفضون سعينا لتطبيق توجيهات السيد الرئيس الذي حثنا، في خطابات عدة، على اتخاذ وقفات جادة مع الفكر الديني؟ ألستم تطالبوننا دائماً، عبر شاشاتكم المصبوبة في آذاننا، بتطهير مصر من كل شخص يشتبه في علاقته بالتطرف والمتطرفين؟ ألم تعتبر الدولة، بكل أجهزتها ووسائل إعلامها ومثقفيها، أن قتل المئات خلال ساعات أمر لا يستوجب العقاب، إذا كان يهدف لإنقاذ مصر؟ ألم يعتبر القضاء الطاهر أن حرق 37 سجيناً في عربة ترحيلات أمر لا يستحق حتى العقوبة التي نالها قتلة كلب شارع الأهرام؟ ألم تسمح الدولة لأذرعها الإعلامية، عقب كل عملية إرهابية، بحضنا على الانتقام من المتواطئين مع الإرهاب. فلماذا وقفنا نحن فقط في زوركم، حين قررنا أن نحب مصر على طريقتنا.. فوالله لو كنا نستطيع حرق بعض المنتمين للجماعات المتطرفة والطابور الخامس من أولياء الأمور لما ترددنا. لكننا قررنا فقط حرق هذه الحفنة من الكتب التي اجتهدنا في اختيارها. وكان ينبغي أن تغفروا لنا حسن النية، إن أخطأنا الاختيار، كما تغفرون دائماً للضباط الشجعان حين يتحمسون في القتل. ثم هل يمكن أن توقفوا هذه الرسائل المتضاربة، لتوضحوا لنا ما يجب علينا فعله مستقبلاً، لكي لا يتكرر الهجوم الذي نلناه على مجهودنا الذي كنا ننتظر عليه تكريماً، كالذي حظي به ضباط الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، خلال تطهيرهم الوطن من الخونة".
لعلي لا أرجم بالغيب، حين أتوقع ألا يقول أولئك الموظفون محروقو القلب، كلاماً كهذا، عبر وسائل الإعلام، لأن هناك ضابطاً من جهة سيادية ما، ربما عقد معهم اجتماعاً مغلقاً، ليحثهم على تجاهل التصريحات التي يطلقها البعض ضدهم في الإعلام، ويشكرهم على وطنيتهم الفياضة، وانتمائهم المبهر، قبل أن يقول لهم: "غلطتكم بصراحة كانت في التصوير، عايزين تحرقوا احرقوا. لكن، من غير تصوير، لأن تصوير الحرق، وبرغم حسن النية الكامل، سيتم استغلاله لتشويه سمعة مصر، بالذات لدى الدول الغربية التي ما زلنا نحتاج دعمها ومعونتها، والخواجات، كما تعلمون، يقدسون الكتب بشكل عبيط وغير مفهوم، ونحن مضطرون لأخذهم على قد عقلهم، حتى تنقضي حاجتي من جارتي، وتقف مصر على رجليها، وبعدها لن نترك كل ما له علاقة بالجماعات المتطرفة والطابور الخامس وشمامي الكلة و25 خساير وحقوق الإنسان، إلا وحرقناه هو ومن يتشدد له، وحتى يحدث ذلك، عليكم بالصبر والطناش، وتأكدوا أن مصر لا تنسى ولادها المخلصين أبداً، حتى لو اضطرت للتخلي المؤقت عنهم أمام غضب الناس. لكن، بعد أن تعبر هوجة الغضب، سيعود الجميع حتماً إلى مقاعدهم". 
ستقال كلمات مثل هذه، بشكل أو بآخر، وبمعنى أو بآخر، عبر ضابط سيادي أو مسؤول عميق، أو مذيع مقرب من أهل الحل والربط، وستنزل برداً وسلاماً على أفئدة الموظفين المحروقة، لتعيد إليهم لحظات النشوة الوطنية التي بلغوها بشكل متواصل، خلال لحظات حرق الكتب التي أمسكوا فيها بأعلام مصر مرفرفة خفاقة، كأنهم سيرشقونها في قلب خط بارليف، ستزيل تلك الكلمات الدافئة عنهم إصرهم، وستمحو الارتباك الذي سكنهم، وستجعلهم يستعيذون بالله من خيانة الوساوس التي صورت لهم أن الدولة أمهم الرؤوم تخلت عنهم، وتركتهم فريسة للضباع المتخفية خلف أقنعة الثقافة والتحضر، وسيخرجون حتماً من تلك التجربة أكثر حنكة ومهارة، وحين تنقح عليهم غدة الوطنية مستقبلاً، لن يتركوا لإبداعهم العنان، بل سيتصلون بالضابط المختص، لأخذ التوجيهات والمقادير وطريقة التحضير، بل لعلهم يتجنبون أصلاً إبداع أية أفكار "عشانك يا مصر"، لكي لا يغلوشوا على عمل "الولاد السُّمر الشُّداد"، الذين يسهرون ليلهم، ويظمؤون نهارهم، لكي تظل مصر نقيةً خاليةً من شوائب الخيانة، مكتفين بالبقاء الدائم في الوضع "معتدل مارش"، بانتظار أية إشارة من أصابع "السيسي عمهم وحارق دمهم"، لينالوا بتلبيتها ثواب طاعة ولي الأمر، الحاكم بأمر الله، فيدخلوا الجنة مع الأبرار، ويستمتعوا من مقاعدهم الوثيرة فيها، بمشاهد حرق الخونة والعملاء في نار جهنم "لايف وإكسكلوسيف"، وبئس المصير.         
 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.