وجه غزة الجديد في قرطبة

14 سبتمبر 2015
+ الخط -
لا أعلم إن كنت أكتب عني، أو عنهم، لأني واحد منهم. واحد من الشباب الذين يحاولون أن يشيدوا وجها جديداً لغزة التي يقتلها الحصار والانقسام السياسي، وجهاً غير الذي تعرفون: لا هو جدارية ولا هو لوحة سريالية ولا مقطوعة موسيقية. وجه ينشد الحياة من جلسة ثقافية تحتضن جملة من الشباب المثقفين الذين يرنون إلى مستقبل رائد، غير الذي شوهه الانقسام، وراجعته قيود الحصار الفكري.
جاءوا يبنون صومعة ثقافية فكرية، بعيدة كل البعد عن حالة الاستقطاب والاصطفاف التي جرفتنا نحو الهاوية، بعيداً عن التابلوهات وعن كل قيود المدينة المحاصرة التي تخطفنا أزماتها من ذواتنا، وتذهب بنا بعيدا نحو اليأس والقنوط والإحباط، بفعل الفقر والبطالة وحالة التخبط الناتج عن ضياع الاستراتيجية الوطنية، بمفهومها الواسع والشامل.
هنا في قرطبة غزة، ذلك المقهى الواقع إلى غرب المدينة، والمطل على شارع ترابي، لا يأبه رواده بالغبار الذي يعلق بالثياب، لأنهم جاءوا يرممون ذاكرتهم مع حلول المساء بالدخول في فكر أدونيس، وأسس المدينة الفاضلة التي أرسى قواعدها أفلاطون. ينظمون الإيقاع الفلسفي، يحاولون أن يفسروا كيف سرق المارقون على الإسلام عدل عمر وخبأوه في بطونهم.
هنا أديب وشاعر، قاص وكاتب، إعلامي وساسي وعازف. هنا جملة من التناقضات في الآراء والأذواق، لكنها توليفة جميلة من الشباب الواعد الذي يحاول أن يلتقي الآخر، لا ينفيه ولا يمقته ولا يعاديه. هنا وجد المجتمعون مساحة للرأي وحرية الفكر والانتماء، هم يجمعون على أنهم مختلفون، لكنهم متفقون، وهذا أجمل ما في الأمر، على أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، ولا يحرّض على العداء والمشاحنة.
من جملة أهدافنا، إن جاز لي الحديث باسم زملائي، أننا نرمي إلى جمع العقد الاجتماعي الذي تفكك على مدار ثماني سنوات، بفعل التراكمات السياسية وحوارات البنادق، وذلك بالنقاش الحضاري العميق حول أهمية تصويب البوصلة الاجتماعية والثقافية أيضاً، على اعتبار أن المثقف أول من يقاتل وآخر من ينكسر.
نحاول أن نعيد الدور الحقيقي للشباب الذي نأى بنفسه عن الساحة فترة ليست بسيطة، تاركًا إياها لمدعي الوطنية، ما أنتج مجتمعا منطوياً على نفسه، ينفث دخان الهروب في المقاهي. ولهذا، جئنا إلى (قرطبة) المقهى لنبدد سحب الضجر المتصاعدة من أنوف الناس، ونخلق حالة فكرية جديدة تقوم على محاصرة اليأس بإيجاد المبادرات، وتحسين الحالة المزاجية بالإنصات إلى النصوص النثرية والثورة الشعرية، المصحوبة بأنغام العود والكمان، ونحتسي القهوة وشاي بعبق النعناع.
وحتى نكون صريحين مع أنفسنا، لا بد أن نعترف بأن الحالة الفكرية التي سادت، في الفترة الماضية، كانت تعاني التيه والتشتت، وكان المثقفون جزءاً من هذه الحالة، مع اعترافنا بوجود استثناءات، لكن الاستثناءات لن تصنع قاعدة. ولهذا، كان من الضروري أن نفتح نافذة صغيرة على الأمل لمجتمعنا ولأنفسنا، في ظل حالة الاختناق من الجو العام.
وبالتالي، أزعم أن هذه القرطبة هي بمثابة ميلاد حاضنة للإبداع الفني والأدبي والثقافي، يمكن من خلالها أن نؤسس لدور شبابي نخبوي، يمسك بتلابيب الحكمة والمنطق. وربما نصبح في المستقبل صور معلقة على جدران هذا المقهى. كما يقول الشاعر محمد الخضور، حين زار مقهاه بعد غياب: قد أَكونُ صورةً على هذا الجدارِ يوماً/ قد أَصيرُ قِصَّةً تنحتُ فيها المقاعدُ وصفًا دقيقاً/ لِهَواني على الريحِ، وقِـلَّـةِ حيلتي أَمام اللحنِ القديم.




avata
avata
فادي الحسني (فلسطين)
فادي الحسني (فلسطين)