جاء الاجتماع الدوري للمطارنة الموارنة هذه المرة بطعم مختلف، فحمل معه "المذكرة الوطنية" التي اعتادت الكنيسة إصدارها مع كل أزمة (عاما 2004 و2009). ومع الأزمة السياسية المستمرة منذ أشهر، في المجلس النيابي وتشكيل الحكومة العتيدة والانتخابات الرئاسية المقبلة. انتظر المسيحيون واللبنانيون ما سيصدر عن الصرح الكنسي. هو اجتماع استثنائي في ظروف انعقاده وبوهج إعلامي، إلا أنّ المذكرة لم تحمل في نقاطها طعماً أو لوناً. فقط القليل من المكوّنات الرئيسية كعناوين الحياد وشرعية الدولة والأمن الذاتي ونهائية الكيان اللبناني. عناوين حساسة أرادت البطريركية المارونية تأكيدها على جدول مسلّمات الكنيسة، لا أكثر ولا أقلّ. فلم تطلب صراحة من الأحزاب اللبنانية –تحديداً حزب الله- الانسحاب من سوريا. ولم تؤكّد مطلب تسليم الأحزاب اللبنانية -أيضاً تحديداً حزب الله- سلاحها للدولة اللبنانية. كما أنها لم تدع الأطراف اللبنانية –وأولها حزب الله- إلى فك مرّبعاتها الأمنية والانضمام إلى خيار الدولة بمؤسساتها ومصالحها.
جاءت كل هذه العناوين والثوابت لتلامس الموقف السياسي الرسمي لقوى 14 آذار، دون ان تضطر الكنيسة إلى إضافة اللغة السياسية، مع العلم أنّ مصادر مارونية أكدت أنّ البطريرك بشارة الراعي عدّل المسوّدة التي صاغها عدد من المطارنة والتي تضمّنت "دعوات صريحة لحزب الله وتيار المستقبل بتغليب المصالح اللبنانية على سواها، والانعزال داخل الحدود اللبنانية لمعالجة الأزمة السياسية المستمرة منذ أربع سنوات". فقرر الراعي أنّ تأتي المذكرة "إشارة في العموميات والثوابت بلا الدخول في التفاصيل والتسميات".
فهل باتت الكنيسة أقرب إلى قوى 14 آذار، بعدما أكدت طوال السنوات الماضية تقرّبها من القوةّ النيابية الأكبر، أي العماد ميشال عون وتكتل التغيير والإصلاح، حليف حزب الله؟ مصادر بكركي تؤكد أنّ الهمّ الوحيد والأوحد لبكركي اليوم هو "الوقوف إلى جانب الرئاسة الأولى، في الوسط، مع إعادة تأكيد الثوابت التي لطالما حملتها الكنيسة والتي على أساسها قام لبنان". وكما أشارت الوثيقة، يكثر في كواليس الكنيسة الحديث عن عبارات العيش المشترك والميثاق الوطني وغيرها. ومن هنا جاء حرص الراعي على إصدار هذه الوثيقة الواضحة في دعوتها إلى الالتزام بإعلان بعبدا (القصر الجمهوري)، أي الحوار الوطني والحياد والتهدئة السياسية والإعلامية، مع تبسيط هذه العناوين من دون تسمية المخلّين بالثوابت وبالدستور اللبناني. فلم يجد القيّمون على الكنيسة أي صيغة جديدة يطرحونها لإنهاء هذه الأزمة ومنعها من الاستمرار والتمدّد إلى باقي مؤسسات الدولة. هكذا، تظهر البطريركية المارونية اليوم، كاللبناني الذي استيقظ اليوم بعد سبات لعشر سنوات، أي منذ انطلاق مرحلة الأزمات الداخلية والإقليمية، ليجد نفسه أمام هذا الكم الهائل من المشاكل والعراقيل، فيخاطب الناس في ما سبق أن تركوه وتخلّوا عنه كالحوار والتهدئة. وأبرز ما يشير إلى هذه الكبوة الكنسية استمرار اعتماد تعابير العهد اللبناني القديم، كالشراكة بين اللبنانيين المسيحيين والمسلمين أو اتفاق الجناحين اللبنانيين المسيحي والمسلم. كمن لا يدرك، ولا يريد ان يعترف، أنّ الصراع في البلد لم يعد مسيحياً- إسلامياً، بل إسلامياً- إسلامياً مباشراً، امتداده يترجم في الساحة المسيحية في الصراع والانقسام بين تكتل التغيير والإصلاح ومسيحيي قوى 14 آذار.
الكنيسة المارونية لا تريد الاعتراف بالواقع الذي بات يعيشه المسيحيون في السياسة والاقتصاد والمجتمع وفي كل المضامير. لا ترى أنّ القوى المسيحية تدفع ثمن الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية، ثمن الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، بينما المسيحيون لا راعي إقليمياً لهم ولا سند ولا قوّة عظمى تؤمّن لهم الغطاء والدعم والتمويل. تماماً كما حصل مع اتفاق الطائف، الذي رعاه العالم الغربي والعربي، والذي قوّض الدور المسيحي في الحكم وحدّ سلطته وأضعفه ورمى بزعماء الطائفة إلى خارج الصف السياسي. فلا يزالون حتى اليوم يدفعون هذا الثمن السياسي الذي أدّى إلى رئيس مسيحي للجمهورية بلا صلاحيات، وقائد مسيحي للجيش راضخ للتسويات والقرارات السياسية، ومديرين عامّين في المؤسسات الرسمية، لا حول لهم ولا قوّة خارج سلطة الوزراء والحكومات. وحين أرادت الكنيسة جمع أبنائها حول قانون انتخابي "يضمن التمثيل المسيحي"، لم تستطع الحفاظ على هذا الجمع إلا لفترة قصيرة، إذ تمرد قسم من السياسيين المسيحيين لاحقاً على طرح الكنيسة، في ترجمة للصراع السياسي في البلد.
هذا المشهد المسيحي العام تراه بكركي ولا تريد الاعتراف به حتى لا تظهر في موقع العجز. وفعلياً، في حرب شريكيها المسلمَين في الوطن، والذي يُترجم إقليمياً بصراع عربي ــ فارسي، ماذا بإمكان الكنيسة أن تفعل؟ هل تكتفي بالاصطفاف إلى جانب رئيس الجمهورية والفريق الوسطي العاجز عن تقديم أي حلّ لبناني؟ أم يُمكن لها بلورة مشروع وخطاب سياسي جديد من خارج الأدبيات المتداولة.