واحد من "رجال ميصر الشرفاء ولا مؤاخذة" (2)

13 أكتوبر 2015
+ الخط -

ربما، حرصاً منه على إخفاء آثار الفضيحة، قرر المستر السكرتير أن يعرّفني على فتاته، فقال مشيرا إليها، وهو يتلوّى ضاحكا: "أحب أعرف حضرتك على رشا هانم.. خطيبة صديق ليا.. رجل أعمال عربي من خيرة الناس.. اتخانقوا النهارده، يا سيدي، وقررت ما أروحش إلا لما أصالحهم، وأكسب فيهم ثواب". وحتى هي، يا مؤمن، نظرت إليه بذهول دام لحظات، ليس فقط لقدرته على ارتجال الكذب بتلك الرشاقة المذهلة، بل لأنه لم يكن هناك ما يبرر قيامه بالكذب أصلاً، خصوصاً وأنني لم أكن قد نبست أصلا، بما هو أكثر من غمغماتٍ لا يمكن تفسيرها.

بدا لي، فيما بعد، وأنا أتأمل ما جرى، أن "مستراً" كهذا أصبح، بعد كل ما حضره من تحقيقات واستجوابات، معتاداً أن يكون جاهزاً بتفسيرٍ محبوك، حتى لو لم يطلبه منه أحد، ولم أجد ما أقوله تعليقاً على روايته التي لم أطلبها، سوى أن هززت رأسي في اتجاهات مختلفة. مرت الثواني التي أعقبت ما قاله طويلة وثقيلة، لم يخطر على بالي ما  يمكن أن أقوله، لإنهاء ذلك الموقف المربك، وهو لم يدع لي فرصةً، لأن أبادر إلى قول شيء، حيث نظر إلى كمبيوتري والأوراق التي تجاوره، وقال وهو يمد يده مصافحاً: "شكلنا عطلناك عن الكتابة.. مش هاسألك بتكتب إيه، أحسن تكون بتكتب مقال يودي في داهية..أسيبك تكمل شغلك وربنا يوفقك.. على فكرة من الظلم اللي الواحد شافه بقى عارف إن البلد دي صعب تتصلح، ولا بعد ميت سنة. لكن، ربنا معاكو". وقبل أن ينتظر مني أي تعليق من أي نوع، أشار إلى فتاته بطرف عينيه أن تلغي مشروع وضع القطرة، وهي دارت حول نفسها داخل نفسها لحظات، قبل أن تفهم قراره العاجل بضرورة الانسحاب السريع المنظم من المكان.

خروج الإثنين من مجال ترابيزتي، وعودتهما إلى ما خلف الحائط الفاصل، أعقبه أصوات أخذ متعلقاتهما، ثم حديث متعجل مع الجرسون لإلغاء الأوردر. بدا بعضه غاضباً، ربما لأن الجرسون لم يخبر حضرة السكرتير بوجود أحد يشاركهما المكان، إذ لكانت طريقة إخراجه المشهد قد اختلفت تماماً. بعدها، عاد صوت الكعب العالي، ليواصل الطرقعة في طريق الخروج من الكوفي شوب، قبل أن يعلو صوت إغلاق باب المكان، ويسود الصمت ثانية في الجوار.

أطللت من شباكي على موقف السيارات المجاور للكوفي شوب، لأرى المستر يسير مسرعاً باتجاه المكان الذي أوقف فيه سيارته، وفتاته تسير خلفه، محاولة حفظ توازنها على الأسفلت. وبعد خروجهما من "الكادر"، ظللت لحظاتٍ أستعيد ما جرى وأتأمله، محتفظاً بذهولي من طريقته في التعامل معي، فور رؤيته لي، قلت لنفسي: لو كنت قد قررت أن أكتب في مسلسلي مشهداً كهذا، لما خطر على بالي أن يكون رد فعل بطله هكذا أبداً. بالتأكيد، كنت سأجعل من يقتاد صافي سليم نحو ليلة غوايتها الأولى. يرتبك للغاية، لو حدث له موقف كهذا، أو ربما يدخل في خناقة مع الشخص الذي يدرك أنه فضحه، أو لعله بعد لحظة مواجهةٍ ما، يرتجل مونولوجاً يتحدث فيه عن مبرّراته الدرامية التي جعلته يسلك طريق الخنا، لا أن يُقبل على فاضحه مادحاً، ومتقمصاً شخصية مواطن شريف، تبكيه أحوال البلاد، وتُدميه أوضاع العباد.  

بعد مزيد من الوقت، أصبحت قادراً أكثر على تنظيم أفكاري، فتذكّرت أن واحداً من أسباب مفاجأتي الشديدة لرؤيته بالذات، أنني كنت أعتقد أنه لا زال في السجن. ربما لأنني تصورت أنه كان قد نال حكماً بالأشغال الشاقة المؤبدة، خصوصاً أن المحافظ الذي كان شريكاً له في قضية الفساد أخذ حكما قاسيا، وظل اسمه يتردد في الصحف فترة، مقترناً بدعوات تطالب بالإفراج الصحي عنه. وبعد قليل من استجماع الذكريات، تذكرت أنني كنت قد كتبت عن الإثنين، بعد تفجر قضيتهما، مقالاً نارياً عنوانه (مدرسة حزنبل للفساد تفتح أبوابها)، تعليقاً على الرشاوي الغريبة التي كان يطلبها المحافظ المستشار لتسهيل طلبات رجال الأعمال المتعاملين معه، وكان منها خرفان وأبقار وبِدل وكرافتات بل وحتى شرابات وصفت أنها "حريرية مستوردة"، فضلا عن قطع الأراضي والشقق والسيارات والمبالغ النقدية. ولم أدر هل كانت ذاكرتي دقيقة، حين قالت لي إن المستر السكرتير كان قد خرج من القضية بحكمٍ مخفف، لأنه تعاون مع الأجهزة الرقابية في تلبيس القضية للمحافظ المستشار، الذي كانت الدولة المباركية تحتاج رأسه بشدة وقتها، للتغطية على فسادٍ حقيقي أخطر، لا يجري أبطاله وراء طفاسة تلهيهم عن تبيّن مواضع الزلل.

دخلت إلى الإنترنت، محاولاً العثور على معلومات، عن موعد خروج المستر السكرتير من السجن، فلم أجد أي معلومات منشورة عن ذلك، بخلاف ما هو مكتوب عن قضية فساده القديمة، ليبدو لي أن الرجل قرّر أن يظل، منذ خرج، تحت الرادار، مغيرا نشاطه نحو نوع جديد من الفساد، أكثر كسبا وأمناً. ولا أخفيك أنني، في نهاية تأملاتي، تمنيت لو كنت قد صادفت ذلك الموقف قبل أشهر، إذ لكنت ربما أضفت خطاً كاملاً، يثري حكاية صافي سليم مع مسترها الذي وضعها على أول طريق الغواية، لكن صافي سليم التي رأيتها بصحبته ليلتها، ظلت حاضرةً في ذهني، وأنا أكتب ما تبقى من حلقات المسلسل.

منذ تلك الليلة الليلاء، جرت في النهر مياه كثيرة، ودماء أكثر، ليعود المستر السكرتير لمفاجأتي بجرأته المذهلة، حين عاد، عقب ثورة يناير، كاتباً صحفياً في صحيفة مستقلة كبيرة، بدأت تنشر له بانتظام مقالات فنية، بعضها من الطراز الوعظي الحافل بالهجوم على الفن الهابط، والمفعم بالحض على مكارم الفنون، قبل أن تتحول مقالاته، في زمن قياسي، إلى مقالات اجتماعية، ثم تصبح سياسية، مليئة بانتقاد أحوال البلاد التي تفسدها مظاهرات الشباب الأرعن، ومطالبة المصريين أن يقفوا إلى جوار مصر التي تحتاج إلى جهود كل أبنائها. وأذكر أنني حين شخرت، بسبب تلك المقالات، شخرة عريضة الطبقة، لأحد العاملين في الصحيفة من أصدقائي، قال لي مبرراً أن تلك المقالات تعتبر مساحة إعلانية، حتى لو لم تصفها الصحيفة بذلك، لأنها تأتي ضمن اتفاقيات تخليص مصالح بين رئيس التحرير ورجل أعمال شاب أصبح يمتلك الجريدة. ويقال إن المستر السكرتير لعب دوراً في صفقة شراء الجريدة، ضمن سلسلة مهام وتشهيلات يقدمها لرجل الأعمال الشاب. 

فيما بعد، كان لدى المستر السكرتير مزيد من المفاجآت، خصوصاً حين نشرت الصحف أخبار زواجه بنجمة شهيرة، لتحتل صورها معه، من حين إلى آخر، صفحات المجتمع في شتى الصحف والمواقع. ليظهر بعدها، بفترة وجيزة، أن الرجل طامع فيما هو أكبر من النجمة الشهيرة، حيث بدأت أخبار استضافاته المتكررة نجوم السياسة والفن في بلدته، التي كان واضحاً أنه يفكر فيها دائرة انتخابية وشيكة. أذكر أنني، في تلك الفترة، التقيت، في عيادة أحد الأطباء، بصديق لي يعمل منتجاً فنياً، فقال إنه أصبح يدير شركة إنتاج، أسسها المستر السكرتير مع زوجته، وأنه محرج من أن يقدم لي عرضاً بالتعاون الفني مع الشركة، لأنه يتحسّب أنني ربما أتخذ موقفا من الفنانة زوجة السكرتير، بسبب معارضتها الثورة وتأييدها مبارك في أيام الميدان الأولى، فقلت لصديقي إن موقفي من الممثلين الذين أعمل معهم لا تحدده مواقفهم السياسية، بل قدراتهم التمثيلية، لأنني لو اشترطت العمل مع فنانين أصحاب مواقف سياسية مشرفة ومشرقة، فلن أعمل إلا مع أسماء تعد على إصبع اليد الواحدة، وكل ما يهمني هو الحفاظ على ما أكتبه، من دون تشويه أو تبديل. 

تهلل وجه صديقي لما قلته، لكنني استدركت قائلا إن عرضه المشكور لن يجدي نفعا، لمجرد أنني قبلته، فقال مشجعاً إنه يعلم أن النجمة تحب أن تعمل معي، خصوصاً وقد سبق أن تعاونا في فيلم سابق، قبل أن تزداد نجوميتها، فقلت إن المشكلة لن تكون فيها. فهم قصدي، ورد قائلاً، بحماس، إن زوج النجمة ليس مؤثراً على الإطلاق في القرارات الفنية للشركة، وأنه سيتصل بي غداً ليؤكد لي ذلك، وسيجعلها تحدثني للاتفاق على موعد للجلوس سوياً، والتفكير في مسلسل تلفزيوني، فقلت ضاحكاً إن ذلك اللقاء لن يحدث، ثم أضفت معتذراً إنني مشغول في كتابة مسلسل تلفزيوني، يأخذ وقتي، لكنه أصر على أنه سيتصل غداً لترتيب موعد للقاء ودي، لكنه لم يتصل ثانية، كما كنت أتوقع وأتمنى.

لم تكن تلك المفاجأة الأخيرة التي يحملها لي المستر السكرتير، فقد جاءت مفاجأته الأخيرة لي، كما الأولى، في كوفي شوب مختلف عن سابقه، حدث ذلك في أحد أيام خريف عام 2012، حين كنت أجلس مع ابنتيّ في إحدى كافيهات مدينة الزقازيق، وكنت مسافرا لها في زيارة عائلية، لترد إلى موبايلي مكالمة من رقم خاص، ضغطت على زرار الإجابة، متوقعا صوتا لأحد الأصدقاء المتفاخرين بأرقامهم المحجوبة، وقبل أن أقول شيئا، جاءني الصوت الثعباني من جديد هاتفاً: "يا أهلا بكاتبنا الكبير". لم أتأكد من شخصيته بسهولة، لأنني ظننت الأمر في البدء مقلباً، يقوم به ممثل صديق من ملاك الأرقام الخاصة الذين سبق أن حكيت لهم حكايتي مع المستر في إحدى جلساتنا، لكن المستر كرر تعريفي بنفسه، ولم يتوقف طويلاً عند جفاء صوتي في الرد عليه، بل قرّر أن يواصل إبهاري مجدداً، حين قام بتعلية نبرة اللزوجة في صوته الزلق، وهو يقول بحماس: "أنا باكلم سيادتك، بصفتي مستشار جامعة كذا، وعايزين ندعو سيادتك لحضور أوبريت فني ضخم، هيحضره الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وقادة القوات المسلحة، وهيحضره كل كتاب مصر وفنانينها المهمين، وسيادتك لازم تكون من ضيوفنا".

قاطعت تدفق المستر الذي أصبح مستشاراً، قائلا، بكل ما أستطيع وضعه في صوتي من جفاء وعدائية: "الحقيقة أنا مش مهتم بحضور مناسبات زي دي"، جاءت ضحكته مجلجلة كأنني لم أقل شيئا، قبل أن يستأنف لزوجته مجددا: "إزاي بس يا فندم.. دي مناسبة وطنية مهمة.. وعلى فكرة، اسم حضرتك جالنا في كشف من الشؤون المعنوية للقوات المسلحة بيحدد الضيوف اللي لازم ندعيهم". أذهلتني المعلومة الواردة في رده، وطريقة إيراده لها، وبدأت أفكر في أشياء تقال لا يصح قولها إلى جوار بناتي، وبممارسة كثير من ضبط النفس، قلت منهياً المكالمة: "أنا دلوقتي في اجتماع، ولما يبقى حد من الشؤون المعنوية يكلمني هابقى أعتذر لهم بنفسي، شكرا"، وأغلقت المكالمة من دون انتظار رده، وأنا ألوم الحظ الذي ربما لو كان قد ساقه لي في مكان آخر أو صحبة أخرى، لكان ردي عليه مختلفاً. وبعد أيام، كنت أشاهد، كغيري، صورة المستر السكرتير وهو يحتضن الفريق أول السيسي، الذي كان يوجه له الشكر على مجهوده في إنجاح المناسبة الفنية التي شهدت يومها وصلة عاطفية للسيسي، أسالت دموع الحاضرين من الفنانات والفنانين الحبلى بنجمه الذي كان مستمرا في البزوغ لدى كثيرين، من بينهم قادة وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، المنبهرون بتقواه وورعه وبكائه في صلاة الظهر. 

بعد فترة من مذبحة رابعة، وحين تحولت، بسبب كتاباتي، إلى شخص يرد اسمه فقط في كشوف الخونة والعملاء، فوجئت بصديق يرسل لي مقالا، قال إن المستر السكرتير يوجه فيه لي ولأمثالي نصائح في حب الوطن، وأهمية التضحية من أجله، وضرورة الاصطفاف خلف قائده الأعلى. ومع أنني حاولت لحظات أن أتخذ قرارا بفتح رابط المقال، لعلي حين أقرأه أستفيد من تلك النصائح، إلا أنني فشلت في فعل ذلك، لأن صوته الثعباني الزلق ظل يملأ مسمعي، وهو يقول: "ده راجل لسانه حلو وعينه مليانة، ولو بقيتي لذيذة معاه هيدلعك آخر دلع".

 

     

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.